بالنسبة لي هو شخص غير مرغوب فيه بالمرة، فأنا بطبيعتي لا أميل لهذه النوعية من البشر التي تحترف النقد اللاذع وسب الجميع، لذلك لم أكن أشعر بالراحة وأنا في طريقي لعمل هذه التغطية التلفزيونية.
كان الطريق طويلا إلى دائرة المرشح المشاغب الانتخابية -كما نطلق عليها فيما بيننا- وكالعادة كنت أتغلب على ذلك بعمل الاسكربت المبدئي للتقرير التلفزيوني بحيث يساعدني عند وصولي إلى موقع الحدث على تنفيذ اللقاءات وجمع المواد المصورة بشكل منظم دون نسيان شيء، ودون التداخل مع تغطيات مراسلي القنوات الأخرى.
نرشح لك – محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. حوار مع حضرة المجذوب
أخيرا وصلنا إلى دائرة المشاغب، وبمنتهى الاحترافية بدأت العمل، أولا قمت بجمع المادة المصورة للجان الانتخابية من الخارج، ولصناديق التصويت من الداخل، ولحشود المصوتين أيضا، بالإضافة إلى بعض اللقطات التوثيقية للمدينة، وللافتات كل المرشحين حتى يتحقق الحياد في التغطية المصورة، وبعد ذلك بدأت في عمل اللقاءات مع عدد من المصوتين ورؤساء اللجان، وكذلك مع معظم المرشحين المنافسين ليكتمل حياد التقرير.
بعد أقل من ساعتين على وصولي لموقع الحدث كان بناء التقرير قد اكتمل نظريا، وكان من الطبيعي أن أعود إلى القناة للقيام بأعمال المونتاج، لكنني كنت أدرك جيدا أنه على المستوى العملي لا تزال أهم عناصر هذا التقرير غائبة، فأنا حتى الآن لم أجري اللقاء مع المرشح المشاغب، ليس فقط لأنه أشهر وأهم مرشحي هذه الدائرة الانتخابية، لكن الأهم أن لقاءه عادة ما يحمل عبارات ساخنة وربما تهديدات وشتائم مرسلة تعطي للتقرر طابعا مثيرا يحبه رؤساء الأخبار في المحطات التلفزيونية جدا، لأنه يزيد من حرارة البرامج المسائية ويوفر للمعدين فرصة كبيرة لأخذ مجموعة من المكالمات الهاتفية للرد على هذه التصريحات ليتحقق في نهاية الأمر مفهوم الحلقة الساخنة، التي تجتذب المشاهدين وتكسر الأرقام القياسية للمشاهدة على اليوتيوب. أدراكي الكامل لهذه الحقائق جعلني أنتظر، كان الملل يهزم صبر الزملاء المراسلين واحدا تلو الآخر فيقررون العودة حتى لم يعد في المكان غيري ومجموعة صغيرة جدا من الزملاء. الشمس نفسها كانت قد ملت الانتظار وبدأت في الغروب، ليحل بعدها ليل كنت أشعر أنه سيكون لحظة الذروة في هذا اليوم الثقيل.
فجأة وبدون مقدمات تحول الملل إلى منتهى الإثارة، فقد اندلعت مجموعة من الحرائق والمشاجرات الكبيرة بالقرب من عدة لجان انتخابية وتوالت أصوات إطلاق الرصاص، كنا نلتقط صورا لأحد هذه الحرائق والمشاجرات فتأتينا الأنباء عن احتدامها في موقع آخر فنتوجه إليه لنلتقط بعض الصور الدرامية بمنتهى السرعة لنتوجه بعدها إلى موقع ثالث.
في اقل من ساعة ونصف رصدنا ما يقرب من خمس مشاجرات وحرائق، وصلني بعدها نبأ ظهور المرشح المشاغب، وبسرعة كنا في مقر لجنته الانتخابية، والتقطنا صورة له وهو يدلي بصوته وأجرينا معه لقاء تليفزيونيا ساخنا جدا بمنطق رئيس غرفة الأخبار. وفي السيارة كان السائق يسابق الزمن للوصول إلى القناة لأتمكن من إخراج التقرير قبل موعد العرض الليلي، أما أنا فكنت منغمسا في محاولة الإجابة على سؤال ملح: هل وقوع الحرائق والمشاجرات بترتيب زمني متتالي بحيث تمكنا من تصويرها كاملة كان صدفة؟! وهل عدم ظهور هذا المرشح إلا بعد حدوث هذه الحرائق وقيام الإعلام بنقلها كان صدفة أيضا؟!
أخيرا أنهيت حيرتي في البحث عن إجابة بقرار أن يكون هذا السؤال هو ختام تقريري التلفزيوني عن هذا اليوم، فدوري أنا كمراسل لا يشمل أبدا تخمين الإجابات، لكنه يتمثل بالأساس في نقل الوقائع حتى لو كانت مجرد سؤال..