نقلًا عن “المصري اليوم”
طارق الشناوي
النغمة الحلوة واللعبة الحلوة لا تملك سوى أن تقول بعدها «الله الله»، كنا جميعا نرددها بعد كل تجلٍّ، وكل آهٍ شجية على المسرح تُحلق بها أم كلثوم، رددها العرب أيضا مؤخرا بعد كل لمحة عبقرية فى المستطيل الأخضر يحرزها محمد صلاح فى شباك الفريق المنافس، بعدها تذوب تماما كل حدود الجغرافيا.
نرشح لك – ياسر أيوب يكتب: محمد صلاح.. هل نحن جائزته أم هو جائزتنا؟
النجم الأول فى «الميديا» كلها الآن هو «الملك الفرعونى مو»، فى العام الأخير وحتى تتويجه بلقب أحسن لاعب فى الدورى الإنجليزى لايزال «الملك هو الملك»، يحتل تلك المكانة الاستثنائية فى قلوب ناطقى العربية، فهو الأكثر متابعة وشغفا والأكثر ترديدا فى مختلف الوسائط الإعلامية.
العرب مهما رأيتهم فى حالة عناق وقبلات ومؤتمرات قمة، وقبلها اجتماعات يطلقون عليها عادة دافئة، تُعقد بين الحين والآخر فى جامعة الدول العربية، يحضرها وزراء الخارجية.. إلا أن الحقيقة الدامغة هى أن البرودة التى تصل لحدود الزمهرير هى المسيطرة على الموقف برمته، تتباين وجهات النظر السياسية، لأن مساحات الخلافات شاسعة، من الصعب فى لحظات أن تتبدد مهما ضحكوا «عشان الصورة تطلع حلوة»، الحقيقة على أرض الواقع تتجاوز بكثير تلك الابتسامات الدبلوماسية والقبلات الهوائية.
هناك مرارة عند البعض نرصدها، ومشاكل تطفو على السطح بين الحين والآخر نتابعها، ومساحات غضب وسوء فهم وتراجع فى المصداقية تتأجج عمقا، حتى اتسع الفتق على الراتق، وتجاوز الجرح مهارة الجراح، إلا أن البلسم الشافى جاء مع صلاح، الذى تحول من أيقونة مصرية ليصبح فخراً للعرب أجمعين أمام العالم، صار بحق أيقونة عربية يتباهون به، وعندما يجدون مصريا بجوارهم تزداد محبتهم له، لأنه ينتمى إلى بلد محمد صلاح، البعض يتجاوز حتى العالم العربى ليحيله إلى أيقونة إسلامية، فهو لاشك يلعب دورا محوريا فى تقديم صورة ذهنية إيجابية عن الإنسان العربى، وتتسع الدائرة ليصبح نموذجا للمسلم، حتى لو لم يكن عربيا، فهم يشاهدون أحد أتباع الإسلام الموصوم بالإرهاب والدموية، بينما محمد صلاح بعد كل هدف وبكل تواضع يسجد شاكرا لله عز وجل التوفيق، هو لا يرقص فرحا بنفسه وبإنجازه، ولكنه يقدم درسا عمليا على التواضع وعلى التدين الإيجابى، وهكذا يرى الناس عربيا مسلما يصحح الصورة التى باتت راسخة، فصارت تحمل اسم مرض اجتماعى «الإسلاموفوبيا»، الرهاب «الخوف الشديد» من الإسلام.
أعلم جيدا أن هذا الجيل لم يعد مثل جيلنا، بعد أن فقد الكثير من الإحساس بالانتماء العربى، تقوقع داخل حدود بلده، أتذكر فى الماضى عندما مثلا كان يخرج أو لا يشارك الفريق المصرى الكروى فى بطولة كأس العالم أو البطولة الأفريقية، كانت قلوبنا تبحث عن أقرب فريق عربى لنمنحه كل مشاعرنا الإيجابية، ويصبح هو المعبّر عن تلك العاطفة العربية الجياشة، فهو ممثلنا الشرعى الذى سينتقم لنا من الفريق الذى أخرجنا مؤخرا من البطولة. كنت ولا أزال أسعد فى أى مهرجان عالمى أشارك فيه بعدد الأفلام المصرية والعربية التى حققت تلك المكانة بالتواجد فى المسابقة الرسمية، أتمنى قطعا أن يحظى الفيلم المصرى بالجائزة، ولكن إن لم يقتنصها المصرى، فإن التعويض المقبول فقط ساعتها أن تذهب الجائزة للفيلم اللبنانى أو التونسى أو الفلسطينى، كنا نُمسك بآخر خيوط نشيد «وطنى حبيبى الوطن الأكبر/ يوم عن يوم أمجاده بتكبر» قبل أن يحيل الواقع المتردى موسيقى الفخر العربى إلى «موتيفة» إعلانية لأحد المبيدات قاتلة الذباب والصراصير وكل الحشرات الأخرى الزاحفة والطائرة.
الإحساس العربى نصل معه للذروة عندما نتماهى مع فيروز وهى تردد «نسّم علينا الهوا»، وأنت لا تفرق معك أنها لبنانية، ولا يشغلك فى الكثير أو القليل جنسية وردة، رغم أننا فى أعقاب التراشق بين مصر والجزائر قبل 8 سنوات بسبب مباراة كرة قدم، طالب البعض بترحيلها خارج مصر ومنع تداول أغانيها، بحجة أنها فى الأصل جزائرية، ويجب الانتقام من كل من هو جزائرى.. طبعا، انتصرت فى النهاية المشاعر الإنسانية على الغوغائية هنا أو هناك.
أحن لتلك الأيام التى كنا نغنى فيها مع ناظم الغزالى «عيرتنى بالشيب وهو وقار/ يا ليتها عيرت بما هو عار»، و«طالعة من بيت أبوها/ رايحة بيت الجيران»، ثم تلك الأغنية التى صارت الآن كفيلة وحدها فقط بإشعال فتنة طائفية «سمراء من قوم عيسى/ من أباح لها قتل امرئ مسلم»، واضح طبعا أن القتل هنا عشق وهيام، وكان هذا مباحا فى الماضى، بينما فى هذا الزمن سيطالب المسلمون بالثأر من القاتلة، ناعتين إياها بالكافرة، وسوف يعتبرها المسيحيون تعريضا بشرف فتاة مسيحية لا تجيز لها ديانتها إقامة علاقة، ولا حتى الزواج من مسلم.
الزمن الجميل الذى كثيرا ما يشعرون بالحنين إليه، يعود عندما تذوب جبال الحساسية مع صوت أم كلثوم، التى وصفوها فى الماضى قائلين «اختلف العرب على كل شىء واتفقوا على أم كلثوم»، واستطاع محمد صلاح أن يعيد لنا هذا الزمن مجددا، فالهوة تتسع سياسيا بين العرب، إلا أنهم اتفقوا مؤخرا جميعا على حب «الملك الفرعونى مو»!!.