محمد حسن الصيفي
أن تغوص في التاريخ فتلك نعمة، أما أن تغوص وتستغرق في تاريخ مصر فقد كُتب لك حبها للأبد. وشتان ما بين الغوص في التاريخ وبين محاولات العوم على شاطئ ويكيبيديا.
نرشح لك – كتاب منسيون: عادل كامل.. أعمال قليلة وأثر كبير
سنحت لي الفرصة وأنا أعمل على إعداد سلسلة “كُتّاب منسيون” وما أعظمها فرصة أن أذهب بعيدًا عن الواقع، أعود لأدراج التاريخ فأرجع بنفحات تملأ الصدر رحابة، تملأ النفس بالونس، والفخر.. وفي كثير من الأحيان بالهدوء.
مصر مليئة بالعظماء على مدار تاريخها الطويل، لم تنم مصر وتصحو على أُم كلثوم وعبد الوهاب ونجيب ويوسف إدريس وزويل ومجدي يعقوب.. بل سبقهم الكثير والكثير
قبل مائة وخمسة وعشرين عامًا من الآن، وُلد بمحافظة السويس. التحق بالكُتًاب فأصبح تلميذًا بالابتدائية في القاهرة ثم الثانوية، ثم التحق بمدرسة المُعلّمين العُليا عام 1911 لكي يدرس بالقسم العلمي ، بعد أربع سنوات يتخرج حاصلاً على الشهادة العُليا.
الآن يرتدي الطربوش والبدلة الكلاسيكية ويذهب كمدرسًا بمدرسة السعيدية، بعد شهر تلغي الحكومة التعيينات التي تمت لدواع التقشف على أثر قيام الحرب العالمية الأولى،
فيذهب للمدارس الحرة الغير حكومية، مُدرسًا ثم ناظرًا لأحد المدارس الألمانية بالقاهرة.
هل تريد أن تعرف اسم الناظر حديث التخرج وكم عُمره ؟!
الإسم: أحمد زكي عاكف
السن: 24
بالفعل، أحمد زكي ناظر مدرسة بالقاهرة وعمره أربعة وعشرون عامًا
لست وحدك يا صلاح في ليفربول!
الرجل يبدأ حياته حيث ينهيها الآخرون، يضرب التقليد والنمط بالطموح فيرديه قتيلاً. يترك النِظارة ليكمل مسيرته العلمية.
المحطة لندن.. الآن في معمل جامعة نوتنجهام، يدرس الكيمياء على نفقته الخاصة، يخرج من المعمل بعد حين فيعثر على مكان بجامعة لندن، يلتحق بها، ثم يلتحق بليفربول قبل صلاح بقرن وربع، ليفربول الجامعة بالتأكيد ليحصل على الدكتوراة في الكيمياء العضوية عام 1934
هل يكتفي؟كلا، يذهب للعمل كباحث في مانشيستر وعنها يقول: “كان معي مفتاح لباب جامعة مانشيستر حتى أحضر وأنصرف وقتما أشاء.. فأظل في المعمل لما بعد منتصف الليل”يواصل الليل بالنهار يدرس في إنجلترا والنمسا ويعود مرة أخرى ليحصل على الدكتوراة في العلوم البحتة من جامعة لندن.. كان واحدًا من اثنين فقط يحصلون على تلك الشهادة بالشرق الأوسط هو والدكتور مصطفى مشرفة.
مصر من تانييعود لمصر، أستاذًا بكلية العلوم، وبعدها بسنوات ينتخبه أساتذة الكلية عميدًا لها، يرفض مصطفى النحاس رئيس الحكومة ويعلق في البرلمان “القانون يعطينا الحق”
الدكتور طه حسين يتدخل ويذهب لزعيم الوفد مكرم عبيد “ماذا فعلتم في قضية أحمد زكي؟”
: أحمد زكي مين؟
“إذا كنتم لا تعرفون أقدار الناس وقيمتهم فهذا جهل لا يصح الافتخار به”
تنتهي الأزمة بعد طول المدة بتعيينه مديرًا لمصلحة الكيمياء بمرتب أكبر من الكلية، ثم مديرًا لمجلس فؤاد للبحوث العلمية “المركز القومي للبحوث الآن” ثم وزيرًا للشؤون الاجتماعية ثم مديرًا لجامعة القاهرة وعضوًا بالمجمع اللغوي ورئيس تحرير مجلة العربي.. مناصب وشهادات وإسهامات متعددة تفوق الحصرحياة الكتابة
اللافت للنظر أن الرجل حياته مليئة بالمناصب والدراسات والجهد الخارق، من أين أتى بالوقت والتركيز والصفاء الخاص بعملية الكتابة؟
هنا أتذكر بيت الشعر القائل “وإذا كانت النفوس كبارا .. تعبت في مرادها الأجسام”
وعلى الرغم من حياته العلمية ومناصبه المرموقة لا تجد احتفاءً واهتمامًا يليق بإسهاماته في الكتابة وأرائه بها على الوجه المناسب.
فالرجل له مؤلفات هامة، ربما أشهرها “في سبيل موسوعة علمية” والذي جاء في أكثر من 500 صفحة، تحدث فيها عن جسم الإنسان بالتفصيل، وعن بعض الأشجار والحيوانات والنباتات والكواكب، يقول في مستهلها “لولا الخشونة ما مشت قدم على أرض، ولولا النعومة ما دارت كواكب حول شمس”.
يقول فيه أيضًا في صفحة 296 حكاية هامة أن ويزمان أول رئيس لإسرائيل بدأ عمله محاضرًا في الكيمياء العضوية في إنجلترا وله بحوث في الكيمياء أغدقت عليه مالا وفيرًا وعمل أثناء الحرب العالمية الأولى في مختبرات البحرية البريطانية، ودرس طريقة إنتاج الجلسرين من السكر بالتخمير فيسر للحكومة من أمر المفرقعات ما تيسر للألمان، واشترط على الحكومة البريطانية آنذاك برئاسة لويد جورج أن يكون مقابل ذلك وعد بلفور بالوطن اليهودي بفلسطين !
والكتاب موسوعة حقيقية عظيمة مليئة بما يستحق القراءة والدراسة والإشارة، أضف إلى ذلك كتابيه “مع الله في السماء” و”مع الله في الأرض” وكتاب “سلطة علمية”، والعديد من الترجمات الرائعة الملهمة.
شخصيات محمود عوض
في كتابه الرائع “شخصيات” يسأله الأستاذ الكبير محمود عوض “هل في العلم شر؟”
_لا .. العلم والتكنولوجيا، كلاهما ليس فيه خير أصلاً، وليس فيه الشر، إنهما كمشرط جراح، يستطيع أن يفتك به، أو أن يجرح ليشفى، أو هما كالماء تستطيع أن تبل به الظمأ وتستطيع أن تسد به الأنفاس وتغرق”
يعود عوض فيسأله “ألا تتفق معي في أنه ليس كل من هو عالم يستطيع أن يكتب للناس؟
_نعم، لكن العلم المفرط في تخصصه لا ينتج عالمًا إنسانيًا.. إن شأن مثل هذا العلم كشأن الخراط أو النجار مثلا الذي يحسن الخراطة والنجارة إحسانًا كاملاً لا يجاريه في ذلك أحد، لكنه إذا ترك هذا المجال لم يكن بعد ذلك شيئًا. إنما العلم الذي اعتبره علمًا هو الذي لايؤدي بمن يتخصص فيه إلى العزوف عن سائر أبواب المعرفة، إنه العلم الذي يجعل الرجل إنسانًا، وهو الذي يجعل له من الحياة معنى ويجعل له من الدنيا فلسفة.
هذا هو الدكتور أحمد زكي عاكف أحد الأعلام والعظماء المنسيين وليس فقط الكُتاب، وهذا هو منهجه، والجملة الأخيرة توضح لماذا جاءت كتاباته ممتعة وقريبة ومحببة .. كتابات علمية يغلب عليها الصبغة الأدبية فتجد نفسك أمام كتابًا ممتعًا يروق لك أن تضعه بين يديك في كل وقت، وليس كتابًا علميًا متخصصًا ثقيلاً تستثقله ..
رحم الله العالم الدكتور أحمد زكي الذي وافته المنية أكتوبر 1975 عن عمر يناهز وحد وثمانين عامًا.