عبدالرحمن جاسم
بدأت الحكاية باتصال هاتفي. رن هاتفي كانت على الجانب الآخر سحر عسّاف، صديقتي واستاذة المسرح في الجامعة الأميركية، طبعاً بديهياً توقعت ولكثرة انشغالاتها ألا يكون الحديث عرضياً. “أحضّر لعملٍ مسرحي بالتعاون مع مبادرة العمل المسرحي وبيت الفنان “حمانا” مقتبسٍ عن مسرحية للوركا، وتحديداً عرس الدم”.
دهشتُ. بدايةً نحنُ في عصرٍ لا يعني لأي أحدٍ أن يقوم بمسرحية أولاً مقتبسة عن الإسباني فدريكو غارثيا لوركا، وثانياً لأنَّ الجمهور يفضّل مسرحاً “أسهل”، كما صنّاع المسرح. فالمسرحيون في العالم العربي بمجمله يميلون للأعمال الأقل صعوبة وكلاسيكية. لكن سحر، ولمن لا يعرفها، تهوى الصعوبات، هي ستخبرني لاحقاً بأن لوركا على قائمة أعمالها، كما كانت “الملك لير” لشكسبير، كما هو تشيكوف ولاحقاً “هاملت”.
إذا باختصار، كنتُ أمام تجربةٍ فريدة، فهل ستنجح؟ كانت عسّاف قد قدّمت الملك لير قبل أشهر، وكانت قد عملت مع أحد عمالقة المسرح اللبناني: المخرج والممثل القدير روجيه عساف (الذي لا تربطها به صلة قرابة رغم نفس اسم العائلة). وقتها أبدع الثنائي عسّاف، هي كمخرجة/ممثلة، وهو كممثل أدى دور الملك “لير” بحرفةٍ قل نظيرها، فضلاً عن كوكبةٍ من الممثلين المحليين.
نرشح لك: ايمان سراج تكتب: زوجة محمد صلاح
للحقيقة، كان للقصة بدايةٌ قبل هذا كله، ولكنها قد تبدو شخصيةً بعض الشيء: أنا كنت قد تعرفت بسحر عسّاف، دون أن أعرفها. يومها، كنتُ قد أصابني يأسٌ من المسرح اللبناني، وقلت في نفسي، أعتقد أنه “مات”، وآليت ألا أشاهد مسرحاً لبنانياً بعد مسرح الرواد (كروجيه عساف، الراحل جلال خوري، كميل سلامة وسواهم). طُلب مني على فجأة أن أشاهد مسرحية تعرض في مسرح “بابل” (الذي أغلقت أبوابه لاحقاً) اسمها “آب بيت بيوت” للكاتب المسرحي الأميركي ترايسي ليتس، ومنذ ذلك اليوم أصبحنا أصدقاء، أخرجت سحر العمل آنذاك، ولعبت دوراً رئيسياً فيه.
اقتنعت مذاك بأنّ الشابة اللبنانية تحمل هماً كبيراً وهو حماية المسرح لا اللبناني فحسب، بل العربي أيضاً. فضلاً عن أنّها تحمل لواءاً يحمله قليلون: تقديم مسرح “طليعي”/”تقدمي” دون دعمٍ من الدولة، كما يحدث في العالم العربي عادةً (المقصود بالمسرح الطليعي/التقدمي هو المسرح الذي يقدّم مسرحيات كلاسيكية أو ذات قيمة ثقافية/مسرحية عالية دون الاهتمام بالمردود المالي بل بما تقدّمه للمجتمع وللثقافة من قيمة).
اتفقنا على أن أشاهد تدريبات الفرقة في مقر التدريبات في الجامعة الأميركية في بيروت، لكن الأمر لم يحدث. وقبل العرض اتصلت بي سحر مرةً أخرى: عبدالرحمن عليك أن تأتي لمشاهدة ليلة افتتاح “عرس الدم” في “حمانا”. سألتها هل ستقومين بها على مسرح في حمانا؟ قالت لي: لا، المسرح سيكون “القرية” بأكملها. لم أفهم كثيراً ما قالته، لكن ضحكتها الخافتة أفهمتني أن في الأمر شيئاً ما.
طوال الطريق في الباص كنت أفكّر، هل من المعقول أن تقدّم عسّاف لوركا بذات الطرق التقليدية كما نعرفها في العالم العربي، خصوصاً ضمن ما يسمى بالمسرح الطليعي أو التقدّمي؟ بمعنى أن يترك النص كما هو دون أي تدخّل محلي، مع العلم أن نصوص لوركا من أصعب النصوص سواء للترجمة أو للعمل عليها مسرحياً نظراً للغته الشعرية الخاصة. الأمر الثاني الذي فكرت فيه: كيف يمكن “عصرنة” مسرحية كعرس الدم؟ من قرأ نص المسرحية يعرف ويميّز بسهولة اللغة الشعرية فضلاً عن “المناطقية” الدقيقة التي كتب بها لوركا.
بمعنى أدق: تسمى المسرحية (بالإضافة لمسرحيتي “يرما” و”منزل برناردا ألبا”) بالثلاثية الريفية نظراً للغة المستخدمة وطريقة الحبكة المرتبطة بالبيئة المحلية الريفية الإسبانية؛ فهل ستنجح المسرحية التي ترجمتها عسّاف إلى المحكية/العامية اللبنانية؟.
وصلت إلى قرية حمانا، ولمن لايعرفها هي قرية وادعة في الجبل البناني، ريفية بامتياز، مناظرها جميلة وخلابة، مما يعطيها بعداً جمالياً خاصة. كانت سحر تجمع المشاهدين/الضيوف في مكان يدعى “بيت الفنان” وبيت الفنان هذا عبارة عن مشروع يرتفع على طوابقٍ ثلاث أعد خصيصاً لإعطاء الفنانين فسحة ثقافية ومساحة للعمل في القرية.
استقبلتنا سحر وحدثتنا عن العمل، ثم أخبرتنا أن نعدَّ أنفسنا لرحلة ليس لها مثيل. وبدأ العرض. منذ اللحظة الأولى، بدأت “الدراما”. فجأة ظهرت فتاتان بشعرهما الغجري وبثيابهما الغريبة ذات اللون الأرجواني/ البنفسجي، وبدأتا بتقسيمنا إلى مجموعات. ريتا باروتا وريتا إبراهيم، وكلتاهما أستاذتان جامعيتان في مجال الدراما والإخراج، دخلتا دور “فتيات” القدر الغجريات بسلاسة كبيرة لدرجة أنّك لا تدرك أنهما تمثلان. كانت المفاجأة الأولى أننا لن نذهب إلى مسرح كما توقعنا كجمهور: بل إلى بيوت الناس، أناسٍ حقيقيين من القرية.
تجري المسرحية، إذاً، في بيوت حقيقيةٍ لأناسٍ حقيقيين. دخلنا المنزل الأوّل بعد أن دلّتنا ريتا وريتا على الطريق: تحلقنا حول الممثلين، لنجدهم يحكون الحكاية كما لو أننا غير موجودين على الإطلاق. بدأت الحكاية بالظهور ونحن نتابع دون أي مسافةٍ بيننا وبين الأبطال البتة. فقد المسرح إتزانه هنا، صرنا جزءاً منه، وهو جزءٌ منا، حتى الممثلين أنفسهم كانوا يتحركون بخفةٍ بين محيطهم الحركي، وبيننا نحن المشاهدين.
كانت مي أوجدن سميث، والتي يمكن اعتبارها من ممثلات سحر عساف الأثيرات (إذ دائماً تشارك في مسرحياتها وأعمالها) تؤدي دور الأم بقدرة وتمكّن. الأم بالنسبة للوركا هي كل شيء، هي بوابة الدنيا: أولها وآخرها، لذلك من الصعوبة البالغة تأدية الدور باستخفاف أو بقلة قدرة. لعبت مي الدور كما لو أنّها هي صاحبة الحكاية والأم التي تبدأ الحكاية عندها وتنتهي.
وليد صليبا الذي أدى دور إبنها الوحيد الباقي على قيد الحياة، بدا مندفعاً في دور الشاب الراغب بالزواج، بدا مندفعاً في لحظة وفرحاً في آنٍ معاً، فيما باسكال شنيص أدت دور صديقة الأم التي أدت دور “الرابط” الذي يثبت الأم بعيداً عن دورها الوجودي الذي يريده لوركا. في المعتاد بالنسبة للوركا، يرغب المسرحي الإسباني الراحل بألا يرى المشاهد الأم باعتبارها ذات بعدٍ وجودي واحد، لذلك هو يعمد إلى خلق بعد إنساني للشخصية من خلال إضافة “الصديقة” والتي تؤديها باسكال شنيص بإتقان. تأخذنا فتاتا القدر (والتي يعتقد كثيرون خطأ بأنهن متسولات، ولكن من يعرف التاريخ الإسباني وعلاقة الغجر بتلك الثقافة، فضلاً عن المشهد الأخير من المسرحية ذاتها، يفهم أنهن أكثر من مجرد متسولتين عاديتين) بعد ذلك إلى منزلٍ آخر وجانبٍ آخر للحكاية.
هنا سنقع على أحلى مفاجأة في المسرحية ككل: الزوجة الحزينة والتي تؤدي دورها بسمة بيضون في واحد من أحلى أدوار المسرحية، من شاهد “عرس الدم” في السابق، وشاهد شخصية الزوجة الكسيرة والمقموعة يدرك أن الشخصية تحتاج جهداً كبيراً سواء لناحية الإداء، الصوت أو حتى طريقة تقديم الشخصية مباشرة أمام جمهورٍ يتابع أدق التفاصيل.
يتكسّر صوت بسمة خلال الشخصية، يتهدّج، ولأن لوركا حاضرٌ باستمرار يمكن لأي متابع من ملاحظة أنه يعيد شخصية الأم مرة أخرى إلى الواجهة: هذه المرة أم الزوجة التي تؤديها كريستين يواكيم بحرفة عالية، لينضم لاحقاً إلى المشهد جواد رزق الله بدور ليونارد (وهو الوحيد الذي يحمل اسماً في المسرحية على فكرة). يمكن اعتبار هذا المشهد من أقوى وأجمل مشاهد المسرحية، وللمفارقة أنه إذا ما شاهدته أكثر من مرة (وهو ما فعلته لاحقاً) يمكنك بسهولة التنبه أن كمية المشاعر التي يعطيك إياها تجعلك تربطها بتجارب سبق ومرت معك في الحياة. ننتقل بعد ذلك إلى قصر والد العروس لنلتقي بالممثل الموهوب باسل ماضي الذي يسحرك بسلاسة حركته ضمن مساحتها الضيقة فضلاً عن قدرته على تجسيد شخصية جشعة معتادة ولكن بطريقة مختلفة، في المشهد عينه نجد الـcomic relief الذي تقدمه دارين شمس الدين باتقان، هنا لعبة لوركا في التخفيف من غلواء المسرحية من خلال شخصية الخادمة التي تمزح وتضحك وتمتاز بطرافة وذكاء لا يظهران الا حينما تريد.
في ذات المنزل نتعرّف إلى العروس المندفعة، الصبيانية أحياناً، والعاشقة في حينٍ آخر ماريا بشارة، التي يمكن القول بأنها أكثر من لاحظتُ تطوره خلال مشاهدتي للمسرحية، فمنذ أول عرض إلى آخر عرض يمكن ملاحظة تطور إداء الشابة وشخصيتها.
لاحقاً تأخذنا الرحلة إلى صالة عرس ثم إلى سينما قديمة أعادت عسّاف ترميمها واستخدامها في العمل، لتقدّم فكرة أكثر توقداً هي رغبة لوركا/عساف معاً في تناول البعد الميتافيزيقي/الخيالي للأحداث من خلال النقاش/التماهي بين الحطابين (نور عنان، نانسي صوايا، ميشيل الغول) والقمر(والذي قام الفنان القدير مارسيل أبو شقرا ذو الصوت الجهوري بإدائه متقناً): هل للقمر/القدرشأنٌ بما حدث بين العشاق؟ بين العروسين؟ بين الزوجة وزوجها؟ هل يأخذ القمر/القدر طرفاً في أي صراعٍ بين بني البشر؟ هل تدخل الطبيعة في الصراع أصلاً؟ أم أنها متفرجةٌ دون تداخل وتدخّل؟ كل هذا يأخذنا المشهد الأخير إليه، لننتقل بعدها في طرقات القرية عينها، وصولاً حتى كنيسة القرية لتكون ختام العمل، مع النهاية التراجيدية والغناء الإسباني الجميل لآنا إيريارتي الإسبانية التي تتقن العربية بطلاقة.
المسرحية التي ستعود سحر عسّاف لتقديمها خلال الصيف نظراً لعدم القدرة على إشغال بيوت الناس لوقتٍ أطول، لربما يمكن تصنيفها كأفضل عمل مسرحي خلال هذه المدّة، إذ يمكن ملاحظة الجهد الكبير الذي بذلته المخرجة اللبنانية؛ هنا لابد أن أشير أنَّ شخصيات عساف لا تترك “الكادر” نهائياً، بمعنى أنها حتى بعد خروج الجمهور من المشهد، لا تترك الشخصيات الدور، بل تبقى به، إضافة إلى أن هناك مشاهد لايراها متابع المسرحية ومع هذا يبقى الممثلون داخل شخصياتهم باعتبارهم “هم” وليست مجرد أدوارٍ يلعبونها.
هذا كله يجب أخذه في الحساب. يحسب للعمل أيضاً الجهد الدراماتولوجي الذي قام به الأميركي روبرت مايرز فضلاً عن الموسيقى الجميلة لأسامة الخطيب، والأزياء التي أعطت الأدوار حقيقتها لكلير مشرف، ناهيك عن ممثلين قاموا بإداء العمل باحتراف حقيقي، فضلاً عن فريق عمل كبير (حيث كان في العمل أربع مساعدات مخرج) والعديد من المساعدين والتقنيين.