طارق الشناوي
الجماهيرية الطاغية واحدة من علامات النجومية في العالم كله، إلا أن محمود مرسي بهذا المقياس المباشر، لا هو نجم شباك، ولم يتباه يوما بعدد مشاهديه فى المسلسلات، ولم يضبطه أحد متلبسا بالترويج لإنجازه الفنى، على العكس تماما لديه إحساس أنه لم يفعل شيئا يستحق عليه كل هذا التقدير الذى يناله من الجمهور والنقاد، بعض نجومنا لإضفاء البريق الكاذب، يبددون طاقاتهم فى البحث عن أوراق السوليفان المزركشة يضعونها لتغليف وتحلية البضاعة، محمود مرسي مزق كل أوراق (السوليفان).
تعود أن يمارس حياته بطبيعية وأريحية كأى مواطن، ينزل للسوق ويفاصل البائع، يداعب من يقترب منه بكلمة أو قفشة، يحمل احتياجاته الشخصية بنفسه رافضا أن يحملها عنه بواب العمارة صاعدا لشقته بحي الزمالك.
نرشح لك.. طارق الشناوي: تأجيل مهرجان دبي أسوأ خبر ثقافي في 2018
تخيلوا هذا الفنان الكبير ظل حتى اللحظات الأخيرة غير قادر من فرط خوفه على مشاهدة أعماله عندما تعرض على شاشة التليفزيون، قال لى إنه يترك التليفزيون مفتوحا فى غرفة النوم بصوت منخفض جدا يكاد لا يسمع ويذهب مسرعا للصالة، قد يستمع إلى جملة أو اثنتين من الحوار، لا أكثر، فهو لديه دائما قناعة بأنه كان قادرا على الأداء بشكل أفضل، ناقد قاس جدا، وهكذا يشفق محمود مرسي الإنسان على مواجهة محمود مرسي الفنان.
لم أر فنانا لديه كل هذه الشفافية والصراحة مع النفس، مثلا فى ثلاثية نجيب محفوظ بعد تحويلها لمسلسل تليفزيونى، أسند له المخرج يوسف مرزوق شخصية (سى السيد أحمد عبدالجواد) فى (بين القصرين) التى أداها باقتدار يحيى شاهين فى الفيلم السينمائى سألته: من أجاد أكثر؟
أجابنى: لا مقارنة أساسا، يحيى شاهين يكسب بلا جدال، أنا كُنت أبحث عن (سى السيد) بينما كان (سى السيد) يبحث عن يحيى شاهين.
تعامل مع الحياة الفنية بواقعية شديدة، آخر فيلم قدمه للسينما (حد السيف) عام 1986.. روى لى عاطف سالم مخرج الفيلم تلك الواقعة: كان التصوير يجرى فى مقهى (التجارة) الشهير بشارع (محمد على)، وهو المقهى الذى كان ملتقى للموسيقيين والملحنين فى القرن العشرين، حيث تعقد الصفقات والاتفاقات، كان فى السيناريو مشهد يدخل فيه يونس شلبى إلى المقهى فى عز نجومية يونس، وكان أهل (محمد على) والشوارع القريبة بالمنطقة قد تناقلوا الخبر أن يونس سوف يصور الفيلم فى مقهاهم الشهير، تجمهر المئات بل الآلاف مما أدى إلى استدعاء الشرطة لتفريق المتظاهرين، استغرق الأمر نحو 6 ساعات ضائعة حتى تمت السيطرة الأمنية على الموقف.
فى اليوم التالى وطبقاً لجدول العمل تحدد تصوير مشهد مماثل لمحمود مرسى وأراد عاطف أن يطمئنه بأن ما حدث أمس لن يتكرر، وأنه سوف يتصل شخصياً بعدد من اللواءات أصدقائه لضمان انضباط الشارع والمقهى أثناء التصوير، إلا أن محمود مرسى بادره قائلاً: لماذا تشغل الشرطة بمثل هذه الأمور الصغيرة، لن يحدث شىء سوف يتم تصوير المشهد فى التوقيت المقرر، وبالفعل لم يتجاوز الأمر سلامات وأحضانا دافئة من رواد المقهى وسكان الشارع وتم التصوير بهدوء!!
هذه هى علاقة محمود مرسى بالجمهور لا هتاف ولا صخب ولا هستيريا، ولكنه حب مشوب بالدفء، إنه حالة أخرى مغايرة لما تعودنا عليه فى علاقة النجم بالجمهور.
لا تنطبق على محمود مرسى مواصفات النجم السينمائى التقليدى المتعارف عليه، فهو دائما خارج السرب، حالة استثنائية فى تاريخنا الدرامى، فنان قابل لللمس لا يعنيه أن يصنع صورة ذهنية زائفة من بريق ووهج، كل هذا ليس من بين مفرداته، فقط ممثل يمتلك فيضا من العفوية أمام الكاميرا، ومواطن طبيعى بعيدا عنها!!
يخاصم الإعلام وعن سبق الإصرار، إذا كان النجم لا يترك نفسه بعيداً عن الساحة ويفكر دائماً فى معادلات تعيده إلى بؤرة الدائرة إذا شعر أنه صار بعيداً عنها، أو فى طريقه لمرحلة تشهد شيئا من البرودة، فإن محمود لا تعنيه أساساً تلك الدائرة فى كثير أو قليل، قد يواصل الابتعاد لو لم يجد أن هناك ما يحفزه على التواجد داخل الدائرة.
يسأل نفسه أولاً: ما الذى يضيفه لى هذا العمل الفنى وما الذى سأضيفه أنا للشخصية الدرامية؟ وإذا كانت الإجابة: لا جديد، فإنه يبتعد ولا يألو على شىء.
أتذكر أنى رأيته آخر مرة عام 2003 فى عرض خاص لمجموعة من الشباب لفيلم اسمه (حبة سكر) فى بداية موجة أفلام (الديجيتال)، أراد أن يدعمهم بالحضور، العرض تأخر نحو نصف ساعة وحرصت على دعوته للجلوس بجوارى، سألته عن مسلسله الأخير «بنات أفكارى» ولم أتحرج أن أنقل له رأيى السلبى، ولم ينزعج، قال لى بكل صفاء روحى وذهنى إنه مدرك تماماً كل العيوب فى السيناريو ومدرك أيضاً أن الدور الذى لعبه كان لائقاً به قبل خمسة عشر عاماً، وفارق العمر واضح جدا بينه وبين إلهام شاهين التى شاركته البطولة، لكنه أضاف: أثناء تنفيذ المسلسل حاولت إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قلت لهم كل ملاحظاتى ولكنهم لم يلتزموا بها.
قدم محمود مرسى للسينما قرابة 25 فيلماً فكان يقبل فيلماً ويعتذر فى نفس الوقت عن عشرة، ورغم ذلك عندما تم اختيار أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية كان نصيبه منها سبعة «الباب المفتوح» هنرى بركات، «الليلة الأخيرة» كمال الشيخ، «السمان والخريف» حسام الدين مصطفى، «شىء من الخوف» حسين كمال، «زوجتى والكلب» سعيد مرزوق، «أغنية على الممر» على عبدالخالق، «ليل وقضبان» أشرف فهمى، سبعة أفلام من بين 25 أى أكثر من 25% من إنتاجه، حظيت بلقب الأفضل.
عرفت محمود مرسى كأستاذ عندما كنت فى مطلع الثمانينيات طالباً بمعهد السينما وكان الأستاذ مرسى يدرس لنا مادة (حرفية الإخراج)، وأتذكر جيداً أن موعد المحاضرة كان فى تمام الساعة التاسعة صباح كل يوم أحد، ولا أتصور أن هذا اختيار عشوائى، ولكنه مقصود لأن التليفزيون المصرى كان يعرض مساء كل يوم سبت فيلماً أجنبياً فى برنامج (نادى السينما) تقديم د. درية شرف الدين، كانت المحاضرة تتناول فى كل أسبوع هذا الفيلم بالنقد والتحليل حيث يشرح الأستاذ عملياً أسلوب المخرج وحركة الممثلين والجو العام وأخطاء السيناريو والتصوير والمونتاج، كان الأستاذ محمود كريماً معى بصفة استثنائية إذ كان يصحبنى معه فى عربته القديمة عند عودته من المعهد، يريد أن يتعرف بالطبع على ما يفكر فيه جيل الشباب فى ذلك الزمن، بينما أنا أريد زيادة حصيلتى الفكرية، من خلال هذه الدردشة العابرة فى السيارة، حيث كان يقطن حى الزمالك وأنا فى المنيل، وكم كانت سعادتى لا توصف مع أى إشارة مرور تعطل مسيرة العربة حتى تزداد متعتى وحصيلتى من الأستاذ، وأحيانا كنت أدعى كذبا أننى لدى موعد فى الزمالك حتى يمتد الحوار، وبعدها أبحث عن أقرب محطة أتوبيس تعيدنى للمنيل، وما تقرؤه الآن هو بعض ما تبقى من تلك اللقاءات صالحا للنشر فليس كل ما خصنى به من حقى إعلانه، ملحوظة مرت قبل يومين ذكراه الـ14، فى هدوء يليق بشخصيته، ولكنه لا يليق أبدا بإنجازه!.