الفضائيات المحلية والعربية تستعين في الأستديوهات التحليلية للمباريات الكروية، بلاعبين معتزلين أو مدربين معروفين من السابقين والحاليين؛ بعكس القنوات الغربية التي تعتمد داخل برامجها الرياضية على أسماء ربما لم ترتدي طوال حياتها (شورت وفانلة) لكنها تعلمت أصول النقد والتوصيف عن طريق الدراسة والمتابعة المستمرة لتطورات الخطط الفنية والإعدادات البدنية في مدارس كرة القدم العالمية.
بعض المحللين الذين مارسوا اللعبة على مدار سنوات طويلة، قد لا يصادفون هوى المشاهدين نظرا لافتقادهم كل أساسيات المهنة من فهم ولباقة وحيادية؛ أما الآخر فينال شهرة عريضة بفضل سلامة تفنيداته وحسن توقعاته التي تحظى بإعجاب المتابعين، فيطالبون بتواجده الدائم على الشاشات بل وينادون أحيانا بضرورة توليه تدريب أحد الأندية أو المنتخبات. لكن عندما يحدث ذلك نراه ينسى كل أفكاره العبقرية ويرتكب نفس الأخطاء الكارثية التي كان ينتقدها عبر الشاشات التليفزيونية.
السؤال المحير دائما وأبدا هو: لماذا يفشل المحللون الرائعون في مهمة التدريب؟ الإجابة تلخصها النقاط التالية:
أولا: مقاييس نجاح المدير الفني نسبية ولا تخضع فقط للنتائج بل يجب الوضع في الاعتبار إمكانيات وطموحات الفرق التي أشرف عليها كي يكون التقييم موضوعيا ومنصفا. على سبيل المثال هناك من يرى أن دييجو سيميوني أخفق مع أتلتيكو مدريد الموسم الماضي لأنه لم يحقق أي بطولة، في حين يعتقد آخرون أنه قدم مردودا جيدا بعد أن نافس الكبار وواصل المشوار حتى الأدوار النهائية في كافة المسابقات المحلية والقارية؛ كذلك هيكتور كوبر الذي لم يفز بأي لقب طوال مسيرته المهنية ومع ذلك حظي بسمعة طيبة أهلته لتولي الإشراف على منتخبنا الوطني.
ثانيا: المثل الشعبي يقول “اللي على البر شاطر”، وهو ما ينطبق تماما على كثير من فلاسفة التحليل الذين يطرحون دوما أفكارا تبدو عبقرية من الناحية النظرية لكنها غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع؛ مثل المطالبة بانتهاج طريقة لعب حديثة قد لا تتوافق مع قدرات عناصر الفريق، أو المناداة بإشراك لاعب معين في التشكيلة الأساسية دون العلم بمدى جاهزيته لخوض اللقاء. المحللون يتعاملون أحيانا مع المباريات وكأنها تُلعب على جهاز البلاي ستيشين الذي لا يوجد به مشاكل فنية أو ضغوط جماهيرية وتدخلات إدارية من شأنها خلق الصعوبات الحقيقية.
ثالثا: يوجد اختلاف جذري بين الخبير الافتراضي الذي يشرح للجمهور طريقة عمل شيء لن يقوموا بتنفيذه، وبين المدرب الذي يقف على أرض المعركة الكروية يلقن جنوده خطة محددة عليهم الالتزام بها. الأول لن يحاسبه أحد حتى لو أخطأ، على اعتبار أن ما يقوله مجرد وجهة نظر قد يختلف معها البعض أو يتفق، لكن الثاني سيتحمل وزر كل الخطايا التي يرتكبها فريقه حتى لو كانت فردية لا ذنب له فيها. التجارب العملية أثبتت أن المحلل القادر على إقناع جمهور المشاهدين بأفكاره ربما يعجز عن فعل ذلك مع اللاعبين المحترفين الذين يتدربون تحت قيادته.
رابعا: التحليل يتناول أحداث وقعت بالفعل، أما التدريب فيتعلق بشيء لم يحدث بعد، وشتان الفارق بين الأمرين. الحالة الأولى عبارة عن مشاهدة دقيقة ثم تفكير عميق يعقبه تقييم للأداء وعرض الملاحظات التي قد تكون مقبولة من الناحية الشكلية بغض النظر عن مقدار قيمتها الفعلية؛ أما الثانية فهي مجرد اجتهاد شخصي يقوم على التوقعات المرئية والحسابات الافتراضية التي قد تصيب أو تخيب. التحليل هو عالم افتراضي موازٍ للتدريب، لكنه فعليا لا يمثل منه سوي نسبة ضئيلة قد تزيد أو تنقص وفقا لمدى حرفية المحلل وقدرته على تقدير المواقف بواقعية.
خامسا: المحللون يتحدثون غالبا عن عموميات يكررونها بترتيب مختلف من أستوديو إلى آخر، مثل أهمية تبادل المراكز وضرورة غلق المساحات أمام الخصوم وحتمية استغلال الكرات العرضية وغيرها من الأكلاشيهات المحفوظة؛ في حين يركز المدرب على التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفارق الفعلي خلال المواجهات الصعبة. الإيطالي مارشيلو ليبي اقتنص لبلاده لقب مونديال 2006 بفضل اعتماده على مهارة لاعبيه في تنفيذ الضربات الثابتة، والألماني يواخيم لوف أسقط منتخب البرازيل بالسبعة عن طريق استخدام سلاح الهجمات المرتدة السريعة.
سادسا: عندما يتبارى شخصان في لعبة الشطرنج أو الطاولة، يكون رفيقهما الثالث الذي يتابع المواجهة من الخارج هو الطرف الأذكى لأنه يرى بوضوح كل النواقص الموجودة والفرص المتاحة. لكن بمجرد جلوسه على مقعد اللاعب يبدأ في ارتكاب نفس الأخطاء التي كان يحذر منها زميليه. الأمر ذاته ينطبق على مباراة بين مدربين يقوم بتحليلها خبير نظري من خلال شاشة كبيرة تعرض كافة الأحداث من مختلف الزوايا وتعيد اللقطات المثيرة للجدل بالتصوير البطيء الذي يتيح له فرصة الحكم على الأشياء برؤية لا تتوافر للقائدين المتواجدين في قلب الحدث.
الجميع يعلم أن المدير الفني الناجح ليس لديه وقت للتواجد داخل الأستوديوهات التحليلية إلا في مناسبات نادرة؛ أما المدرب الذي يتفرغ للعمل بها فهو بالتأكيد غير مطلوب من أي فريق بسبب نقص الكفاءة أو كبر السن. هذه القاعدة المعروفة عالميا لا تطبق داخل منظومتنا الرياضية المحلية التي تسمح لمدربين متعاقدين مع أندية بالظهور على الفضائيات من أجل تفنيد اللقاءات المقامة بين منافسيهم في إطار نفس المسابقة!