“الفن هو حكايتي، والفن هو اللي حيديني الخلود”
وجهها كان مبتسما وهي تقول لي هذا الكلام، كنت ضيفا عليها في منزلها المتواضع بحي إمبابة، بمجرد دخولي بهرني التناقض، بين جمالات شيحه التي وقفت على أهم مسارح لندن وأطربت الدنيا، وجمالات شيحه التي تجلس أمامي الآن في غرفة بسيطة لا مكان فيها لمعدات التصوير.
نرشح لك: محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. تقرير شهيدة التحرش!!
التناقض بالنسبة للمراسل التليفزيوني هو كنز ثمين يوفر لك أهم عناصر التقرير المشوق، فما بالك إذا كان هذا التناقض يرتبط بمصدر بقدر جمالات شيحة ، الفنانة الشعبية التي غنت وسافرت وعاشت كثيرا، أنت إذن على موعد مع تقرير من النوعية التي تعجب المشاهدين في العرض المباشر، وتحصد المشاهدات على اليوتيوب.
المسألة طبعا لم تكن بهذا اليسر، فعلى قدر توافر عناصر التشويق في التقرير، على قدر صعوبة إنتاجه، فالغرفة التي استقبلتني فيها جمالات، لا تتعدى مساحتها الثلاثة أمتار، تراصت فيها شهادات التكريم والصور القديمة مع فناجين القهوة، وبعض أدوات المطبخ في دولاب أقرب إلى النيش، بما يعني أنه لا مكان لوضع المعدات الخاصة بالتصوير، ولا فرصة لإلتقاط مادة بصرية كافية.
كنت أفكر في حل لمعضلة التصوير هذه عندما فاجأتني جمالات شيحة بكيسها البلاستيكي الذي تختزن فيه سنوات عمرها الخمسة وسبعين على هيئة صور فوتوغرافية، المشهد حرك في ذهني فكرة مخزن الذكريات الذي لا يهم أن يكون واسع بقدر ما يهم أن يكون عميق.
كذلك التقرير التليفزيوني أيضا يمكنك أن تعتمد فيه على مادة بصرية ضيقة المساحة لكنها عميقة المحتوى، ومن هنا قررت أنا أن أصنع تقرير جمالات شيحة بمنطقة خزانة الذكريات، كل شيء في التقرير يدور داخل غرفة جمالات شيحة الضيقة التي تنقلنا فيها صور جمالات شيحة عبر الزمان، بينما ينقلنا يوتيوب الإنترنت من خلال هاتفي الشخصي عبر المكان.
التقرير الناجح هو الذي يكتسب صفات أبطاله، فإذا كان مصدر التقرير رقيق خرج التقرير ناعم في تقطيعاته، أما إذا كان المصدر غاضب وُلد التقرير منفعلا حاد النقلات.
ولأن بطلة تقريري كانت المطربة التي دلعتنا على ورق الفلة وظلت لنحو سبعين عام كاملة تغني بروح الفلاحة المصرية فقد كان تقريري عنها شبيها لها، يطربك إذا كنت تبحث عن الفن، ويفيدك إذا كنت تريد التوثيق، أما إذا كنت ممن يبحثون عن عبرة الزمن فربما يبكيك التقرير مثلما أبكاني وأنا أعيد مشاهدته بعدما قرأت خبر رحيل جمالات شيحة ملكة الموال الشعبي.