في مثل هذا اليوم من العام 1882، وتحديدًا في حي المغربلين بدرب الأغوات بالقاهرة، وُلد الشيخ “محمد رفعت”؛ الصوت الذي غرَّد بآيات الله فسكنت مع أصدائه القلوب والأرواح، وهدأ في ترتيله فسكنت حروفه واطمأنت في مواضع الفَهم، ولما اشتد المعنى علت وصدحت في مواطن العزم، فتجاوز صوته البلاد واللغات واللهجات، حتى أنك لتحسبه يرتل من السماء، وما هو فيها، وتسمعه في الأرض، وما هو عليها.. وبين هذا وذاك لا يسعك سوى ترديد لفظ الجلالة بين الفينة والأخرى، فيكون الإنصات ديدن سماعه و”الله يا مولانا” تقطع أدائه.
قيل إنه عند ولادته كانت أجمل ما فيه عيناه، لكن الروايات تناقلت أن امرأة “حسدته” عليهما، فلمّا رأت والده يحمله على كتفه وهو ابن عامين – إذ لم يكن يتركه يمشي على الأرض من فرط حبه له- قالت له: “ابنك له عيون ملوك.. ده رمشه نايم على صحن خده”، فأصابه داء في عينيه بعدها لفترة، وعانى منها كثيرًا حتى أجرى له والده عملية جراحية، لكنه فقد البصر تمامًا على إثرها وهو ما زال ابن خمسة أعوام.
وكعادة المصريين في توجيه من كُفَّ بصره للاشتغال بالقرآن حفظًا وتدبرًا وتلاوة، اتجه به والده إلى كُتَّاب “بشتك” الملحق بمسجد مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، فحفظ كتاب الله وأجاد ترتيله قبل سن العاشرة، وكانت النية تتجه إلى إلحاقه بعد ذلك بالأزهر، لكن شاء الله بعد ست سنوات من الدراسة أتمَّ فيها حفظ القرآن ومجموعة من الأحاديث النبوية، أن يقضي عامين آخرين فى علم التجويد.
توفي الأب وطفله الصغير ما زال ابن 9 أعوام، لكنه كان صغيرًا في السن كبيرًا في المسؤولية التي حملها على عاتقه بعد رحيل والده، إذ وجد نفسه مسئولا عن أسرته المكونة من 4 أفراد (أمه وخالته وأخيه وأخته)، فانطلق يقرأ القرآن في المآتم ليوفر لقمة العيش لهم.
ولمَّا حفظ القرآن ودرس علم القراءات والتفسير ثم المقامات الموسيقية على أيدي شيوخ عصره، أحيا في سن الرابعة عشرة بعض الليالي في القاهرة بترتيل القرآن الكريم، حتى ذاع صيته وعُرف عنه حلاوة صوته، فكانوا يطلبونه في الأقاليم أيضًا. وحين أتم الخامسة عشرة عُين قارئًا ليوم الجمعة بمسجد فاضل باشا، فذاع صيته أكثر، وتهافت المحبون لصوته ليزاحموا صفوف المسجد في حضرته، منصتين إليه بإجلال ووقار.
أول مكافأة حصل عليها في حياته كانت في ليلة أحياها عند رجل متوسط الحال، اتفق معه على مبلغ عشرين قرشًا، وعندما انتهت الليلة أضاف خمسة قروش أخرى. فيقول الشيخ عن ذلك في حواره بمجلة “الاثنين” في عام 1940: “كان لتقديره هذا في نفسي أثر جميل”. وبخطفة سريعة لسنوات العمر، نلقي نظرة عليه عندما كبر وعلا صيته، وتحديدًا حين دعاه أحد الأثرياء ذات مرة للقراءة في مناسبة ما، فلما انتهى من تلاوته أعطاه الثري أجر وقته الذي قضاه في التلاوة، فلم يعرف ما أخذ، لكن لما رجع كلاهما لبيته وجد الثري أنه أخطأ وأعطى الشيخ “مليمًا” بدلا من “جنيه ذهبي”، فهرول لـ”رفعت” يعتذر ويطلب منه أن يأخذ ما وعده به، فأبى الشيخ قائلاً: “هذا رزق ربي، والحمد لله على ما رزقني”.
الحس المرهف للشيخ الجليل دفعه للتعمق في دراسة علم القراءات وبعض التفاسير، بالإضافة لدراسة الموسيقى ومقاماتها، فدرس موسيقى “بيتهوفن” و”موتزارت” و”فاجنر”، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية في مكتبته. أيضًا كان يُقيم صالونًا ثقافيًا قصده نخبة من المثقفين والفنانين، على رأسهم أحمد رامي وكامل الشناوي وصالح عبد الحي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، كما كانت ليلى مراد تحضر أيضًا قبل إسلامها برفقة والدها.
وفضلًا عن ترتيله للقرآن، كان الشيخ يُغني في مجلسه بصوته الرخيم قصائد كثيرة، منها “أراك عصيّ الدمع” و”حقك أنت المنى والطلب”، فيجلس “عبد الوهاب” بالقرب منه مصغيًا بتمعن، ليقول بعد ذلك في إحدى حواراته إنه عندما كان طفلاً واستمع إلى صوت الشيخ رفعت يرتل القرآن بعد صلاة الفجر، كانت البلابل والعصافير وعناقيد الكروانات تسبح كجوقة في خلفية صوته، فهو “صوت ملائكي يأتي من السماء لأول مرة”، على حد تعبيره.
ومع مرور السنوات يزداد صيت الشيخ انتشارًا وتتسع دائرة محبيه ومريديه، حتى يأتي عام 1934، فيكون تتويجًا لكل الأعوام السابقة ويحصد من بعده شهرةً تخطت حدود الدولة واللغة نفسها؛ إذ كان أول صوت بشري يسمعه المصريون عبر الراديو حين افتتح بث الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية بآيات سورة الفتح فكان مطلع السورة “إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا” خير البدء وأنسبه.
في الحقيقة، لم يوافق الشيخ محمد رفعت على العمل بالإذاعة في بداية الأمر، ولم يفعلها حتى استفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز القراءة في الإذاعة رغم عرضها لأغاني يعتبر بعضها “خليعًا”، فأفتى له بجواز ذلك، حيث أمسك الشيخ الظواهري بيد الشيخ رفعت وجعله يتحسس جهاز الراديو في ركن بالبيت، قائلاً: “إنه الراديو يا شيخ رفعت.. لقد جئت به لأستمع لك”، فانطلق الشيخ من فوره للإذاعة ليسمعه الملايين، ويبدأ تاريخًا فارقًا في حياته مع الجمهور، ومنذ السنة الأولى، تم التعاقد معه لتلاوة القرآن طوال شهر رمضان مقابل مائة جنيه، فارتبط صوته لدى المصريين بأجواء الشهر الفضيل وبالأذان الذي سجَّله وما يزال موجودًا ويُعرض حتى الآن في بعض القنوات.
في الأعوام الأخيرة من حياته، أصيب بعدة أمراض لاحقته وجعلته يلزم الفراش، فكان ينقطع ثم يعود للقراءة والترتيل مرة أخرى بحسب حالته الصحية، لكن شاء الله أن يُصاب في السنوات الثمان الأخيرة من عمره بورم في الأحبال الصوتية، منعه من تلاوة القرآن حتى وفاته، فلم يكن يملك نفقات علاجه الباهظة ولم يقبل كذلك أن يتكفَّل أحدٌ بعلاجه. ورفض مبلغًا قيمته أكثر من 50 ألف جنيه، جمعه المواطنون من مختلف الطبقات والأديان ليسهموا في نفقات علاجه، حتى يعود ويرتل مرة أخرى، إلا أنه أبى قائلاً عبارته الشهيرة: “الدنيا عرض زائل.. وقارئ القرآن لا يُهان ولا يُدان.. أراد الله أن يمنعني، ولا راد لقضائه.. فالحمد لله”.
علاقة الشيخ محمد رفعت بالمسيحيين كانت جيدة للغاية، فشارك كثير منهم في التبرع لعلاجه إلا أنه رفض فكرة التكفّل به من أصلها، وفي أيامه الأخيرة كان أقرب أصدقائه الفنان نجيب الريحاني، وكان يزوره بصفة دائمة للتخفيف عنه، وكأن اختلاف الديانات لم يكن شيئًا ملفتًا يستدعي فض الصداقة بين قارئ للقرآن وفنان مسيحي، بل دعم العلاقة ما في الديانتين من سماحة ومحبة حقيقية.
في نفس تاريخ مولده توفي الشيخ محمد رفعت في العام 1950، عن ثمانية وستين عامًا قضاها بين آيات الله. توفي “الصوت الذي كان يفتح أبواب السماء” كما قال عنه نزار قباني ذات يوم. “المتفرِّد الممتلئ تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ” مثلما قال عنه العم محمود السعدني. توفي “أجمل الأصوات وأروعها، الصوت القادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، والذي ليس كمثله أي صوت آخر” كما قال الكاتب الصحفي الراحل أنيس منصور.
توفي “رفعت” فنعته الإذاعة المصرية إلى المستمعين بقولها: “أيها المسلمون، فقدنا اليوم علمًا من أعلام الإسلام”، فتبعتها الإذاعة السورية في النعي قائلةً: “لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام”.. وها نحن في نفس اليوم بعد 136 عامًا من مولده نحيى ذكراه فننشر سيرته ونذكر أفضاله؛ وبعد 68 عامًا من وفاته ننعيه فنبكي آثاره، وكأنه بين الميلاد والوفاة ترك ذكراه تعيش أبدا…