في ذكرى ميلاده الـ 73 يطل علينا بأعمال عظيمة خالدة، كان للعاصمة ومعالمها داخلها سهم كبير.. جمال الغيطاني أحد أعظم الحكائين في تاريخ الأدب والرواية العربية والمصرية.
ولد الغيطاني في 9 مايو 1945، بقرية جهينة إحدى قرى محافظة سوهاج، تلقى مرحلة التعليم الابتدائي في مدرسة “عبد الرحمن كتخدا” وأكمله في مدرسة الجمالية الابتدائية، وبعد انتهائه من الإعدادية التحق بمدرسة الفنون والصنائع وهو بلا شك ما كان له الأثر بعد ذلك في إتقانه الشديد للتفاصيل فيما تراه عينه ويخطه قلمه.
اعتُقل فيما بين عامي 1966 و1967 على خلفية أحداث سياسية لكي ينتقل بعدها في عام 1969 ليعمل مراسلاً حربيًا في جبهات القتال في حروب الاستنزاف وذلك لصالح مؤسسة أخبار اليوم ولك أن تتخيل تلك الفرصة وكم المشاهدات والوقائع والحيوات التي عاشها الغيطاني تلك الفترة.
عقب حرب أكتوبر عمل بقسم التحقيقات الصحفية بنفس المؤسسة وذلك عام 1974 وهو نفس العام الذي صدرت فيه واحدة من أروع رواياته، بل من أروع الروايات العربية على الإطلاق وهي رواية “الزيني بركات”. وهي رواية تحاول سبر أغوار النفس من خلال تجسيد الألم والصراع الذي يعانيه المصري خلال عهد السلطان الغوري أوائل القرن العاشر الهجري من خلال شخصية الزيني كبير البصاصين.
تعد الرواية إسقاطًا على كل أنواع الظلم المتصل بالحياة السياسية في مختلف العصور ولاقت نجاحًا لافتًا على المستوي المحلي والعربي نظرًا للتماس بينها وبين حياة الكثير من العرب والمسلمين في أزمانٍ مختلفة، ولم يقف النجاح عند المستوى العربي بل فاق ذلك إلى أوروبا فتُرجمت بعد ذلك إلى الفرنسية والألمانية وحققت نجاحًا باهرًا. والقارئ للزيني بركات سيكتشف أن الغيطاني يجري بالأسلوب جريان الماء، فلا صعوبة ولا مبالغة في الأوصاف، ولا تعقيدات لغوية يبررها سياق تاريخي وسياسي ملتهب للرواية. ولكن على العكس تمامًا، ينتقل القارئ كالفراشة بمنتهى الثلاثة من زهرة إلى زهرة ومن فكرة إلى فكرة ومن فصل إلى فصل دون أن يجد كلمة واحدة تحتاج لتفسير أو شرح.
في عام 1985 ترقى ليصبح رئيسًا للقسم الأدبي بأخبار اليوم، ثم قام بتأسيس أخبار الأدب عام 1993، وشغل فيها منصب رئيس التحرير. وهي التي استمرت حتى الآن تقدم صنوفا من الثقافة والأدب للقارئ بمعادلة صعبة للمحافظة على هذا القارئ والاستمرار في الظهور ومواصلة العمل الأدبي الشاق في بلد لا تجعل الثقافة والأدب خيارًا أوليًا.
لكن الغيطاني هذا الكاتب الكبير يستحق التتبع والتفكير، فهو صحفي ناجح بمعني الكلمة، وقاص وأديب من الطراز الرفيع، كاتب لا يكل ولا يمل، فمن آواخر الستينات في أوج الأحداث والتقلبات على الساحة المصرية حتى عام 1974 يصدر ثلاث مجموعات قصصية “أوراق شاب عاش منذ ألف عام”، و”أرض أرض”، و”الحصار من ثلاث وجهات” ورواية “الزيني بركات”.
ومن عام 1975 يكمل المسيرة الناجحة بإصدارات متعاقبة ومتنوعة يبرز فيها الوطن وأصداءه وروائحه وآثاره ومقاهيه وبسطاءه، نفذ الغيطاني إلى قلب الوطن من تلك الآثار، في عملية تشريح دقيقة لأحواله وطبقاته، وكان دائم التنقل بين فكرة الوطن وفكرة النفس البشرية وألامها وأحوالها المختلفة، وهو انتقال وتدرج يبدو منطقيًا فنحن الوطن والوطن نحن هؤلاء البشر.
هذا التلاصق بين الفكرتين والانتقال بينهما على طريقة الفلاش باك في السينما فمن “أوراق شاب عاش منذ ألف عام” إلى “الزيني بركات” إلى “رسالة البصائر في المصائر” ثم ملامح القاهرة في ألف سنة” و”حكاية المؤسسة” و”وقائع حارة الزعفراني”… وغيرها.
كما أنه لا يستطيع أحد أن يغض الطرف عن صداقته الوطيده بأستاذه نجيب محفوظ، فكان همزة وصل بيننا وبينه، كما أن الغيطاني نفسه كان نعم التلميذ الذي يكمل مسيرة البحث والتنقيب والتقليب للتربة المصرية. فنحن نجد أن كتابه الماتع “نجيب محفوظ يتذكر” أظهر شخصية نجيب محفوظ التي عرفها من البدايات بوقائع يحكيها ببساطته وسلاسته المعهودة فتشعر أنك تجلس معهما هناك في الجمالية وفي أحياء مصر التاريخية العظيمة.
وما بين حياة وظيفية ناجحة بكل المقاييس وحياة أدبية وفنية لامعة ترك لنا الغيطاني عشرات الأعمال التي سيذكرها التاريخ لأنها ولا شك جزء منه، وكما كان الغيطاني كاتبًا سهلا فكذلك جاءت أعماله، وكذلك كان انتشارها.
توفي الروائي الكبير في 18 أكتوبر عام 2015 عن عمر يناهز سبعين عاما، ليترك لنا إرثا كبيرا ومنيرا ليظل طيفه بيننا مؤنسا لنا في وحدتنا..