أحمد شعبان
بصبر رسام سجاد متحكّم في أدواته، نسج الكاتب الكبير الراحل جمال الغيطاني أكثر من 50 كتابًا. انكبّ على كتب التراث والمتون ينقّب فيها حتى يقدم لنا ملامح وجوانب خفية من تاريخنا في فترات وحقب مختلفة، بأسلوب سلس ولغة عذبة استقاها من كتب المتصوفة أمثال محيي الدين ابن عربي وغيره، وصيغة إبداعية فريدة جمعت بين ثقافة الإتقان وروح الصوفي وفلسفة المعماري.
ابن قاهرة المعز الذي يضرب بجذوره في أعماق مصر، المولود في 9 مايو 1945، جاء من صلب الصعيد بإرثه وأصالته، مولعٌ بالحكي منذ الصغر، قرأ وهو في السابعة من عمره، كانت أول رواية يقرأها “البؤساء” لفيكتور هوجو، مارس الكتابة وهو في العاشرة من عمره، وفي العاام 1959، قبل أن يكمل الخامسة عشرة من عمره كتب أول قصة وعنوانها “نهاية السكير”، ودخل بها مسابقة نادي القصة، وكانت أول قصة تنشر له في يوليو عام 1963 في مجلة “الأديب” اللبنانية، وفي عام 1969 صدر له أوّل كتاب تحت عنوان “أوراق شاب عاش منذ ألف عام”، تضمن خمس قصص قصيرة، كُتبت بعد هزيمة الجيش المصري في سيناء، عام 1967، ولاقى الكتاب ترحيبًا وحفاوة في أوساط القراء والنقاد.
نرشح لك.. أبرز 11 كتابًا قدمهم جمال الغيطاني للمكتبة العربية
“أمنيتى المستحيلة أن أمنح فرصة جديدة للعيش.. أن أولد من جديد.. لكن فى ظروف مغايرة.. أجىء مزودًا بتلك المعارف التى اكتسبتها من وجودى الأول الموشك على النفاد.. أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع.. وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم.. وتلك النظرة تعنى الود.. وتلك التحذير..”.
انتمى “الغيطاني” إلى جيل من الروائيين الذين بزغ نجمهم بعد هزيمة 1967، لكنه أراد التفرد والاختلاف، لجأ إلى النصوص القديمة، بحتًا لنفسه عن نبرة خاصة وصوت لا يشبه أحدًا غيره، دخل في رحلة من التجريب والمغامرة، وصنع أساليب حققت له حرية أكبر في السرد والحكي، فأخرج كتابه “التجليات”، الذي وصفه محمود أمين العالم بأنه “ظاهرة جديدة في الأدب المعاصر”.
“ما من شيء يثبت على حاله، لو حدث ذلك لصار العدم، كل شىء فى فراق دائم، الإنسان يفارق الدنيا إلى آخرة مجهولة بلا آخر، البصر يفارق العين إلى المرئي، ثم يفارق المرئي إلى البصر، الليل يفارق النهار، والنهار يفارق الليل (..)، حتى الأشياء التى ظننا أنها باقية أبدا، حتى الأيام التى اعتقدنا أنها لن تتبدل قط”.. “التجليات”.
في “التجليات” أودع الغيطاني تجربته الوجدانية، ومزج فيها بين الشعر والخيال والفلسفة والتصوف، تحدث عن فلسفة الحياة والموت، معنى الأشياء التى تسكن الروح، تصدرته أحاديث الفراق، أول جملة في تجلياته: “لو أعرف للفراق موطنًا، لسعيت إليه، وفرقته..”.
“الكاتب يعتمد ذاته كركيزة، ولكنه ينطلق منها إلى ما هو غير متصل بها، فالذات هي المركز في التجليات مثلاً، وكما ذكر مولانا جلال الدين الرومي «إذا أردت أن تنظر الى مركز العالم فأنظر إلى ذاتك». والنظر هنا ليس من باب النرجسية، وانما من باب أنك ترى العالم كله من زاويتك، وبالتالي فبقدر نضجك، وتقدمك في العمر، وبقدر تجاربك يتحول كل هذا إلى ركيزة أساسية لرؤية العالم”، حوار مع صحيفة “الشرق الأوسط”.
في الستينات، عرف الغيطاني التعذيب في سجون عبد الناصر، اعتقل في عام 1966 على خلفية انتمائه إلى أحد التنظيمات اليسارية، حال المعتقل بينه وبينه هوايته الأولى “الكتابة”، قال في حوار مع “الأخبار اللبنانية”: “إنني أمرض عندما لا أكتب.. الكتابة عندي ليست مقاومة للنسيان، بل مُقاومة للموت”. وفي حواره مع مقدِّم البرامج التونسي عماد دبور، في برنامجه “ممنوع”، وهو الحوار الأخير للغيطاني قبل رحيله عن عالمنا في 18 أكتوبر 2015، عن عمرٍ يناهز السبعين، كانت الجملة الأبرز التي قالها: “وُلِدتُ لأكتُب”.
“الكتابة بالنسبة لي مثل النبض، مثل التنفس، أمارسها مثل الغريزة، فهي ليست فعلاً مكتسباً، وأزعم أنني كنت أمارس فعل الكتابة، قبل تعلمها من خلال ممارسة فعل الحكي، لم أتوقف عن الكتابة يوماً واحداً حتى وأنا داخل المعتقل في 1966، رغم الظروف القاسية والقيود الشديدة، وأذكر أنني كتبت ثلاث قصص على ورق «البفرا» السجائر… وأثناء فترات التحقيق، أو فترات التعذيب كما كان يطلق عليها، وكانت تجري في سجن «القلعة» كنت أحياناً لا أجد ما أكتب عليه فأضطر للكتابة بالمخيلة”، حوار مع صحيفة “الحياة” اللندنية.
عاش “الغيطاني” ست سنوات على الجبهة، ذهب إلى ميادين القتاال مراسلًا حربيًا متطوعًا لصحيفة لصحيفة “أخبار اليوم”، عارض السادات، وفُصل من العمل في بداية حكمه، ومُنع من الكتابة الصحفية في السبعينيات، وكان ممنوعًا ذكر اسمه لمدة 10 أعوام في “أخبار اليوم”، وعندما حصل على جائزة الدولة التشجيعية نُشر الخبر في الجريدة بدون ذكر اسمه، وفي الثمانينيات أصبح رئيس قسم الأدب في “أخبار اليوم”، وفي التسعينيات أسس “أخبار الأدب”، التي كان يرى أنها رغم كونها صحيفة قومية إلا أنها كانت أقوى جريدة ثقافية معارضة، وحصل على جائزة الدولة التقديرية، في الألفية الثالثة.
للغيطاني أعمال عديدة منها: “الزيني بركات، وقائع حارة الزعفراني، دفاتر التدوين، مصطفى أمين يتذكر، نجيب محفوظ يتذكر، وتوفيق الحكيم يتذكر، الخطوط الفاصلة (يوميات القلب المفتوح)، حكايات المؤسسة، المجالس المحفوظية، رسالة البصائر والمصائر، نوافذ النوافذ، خطط الغيطاني، رسالة في الصبابة والوجد”، وأعمال قصصية وروائية أخرى.
“أنا دائمًا في حوار مع اللحظة التي تفنى في محاولة لاقتناصها”.. حوار مع صحيفة “الشرق الأوسط”.
مرّ “الغيطاني” في حياته بتجارب عديدة، عريضة وثرية، وحين سئل عن الشيء الذي ندم عليه في حياته، قال: “ندمت على عملي بالصحافة الثقافية، لأن المسؤولية تفرض عليك خصومات أنت لست طرفًا فيها، فلو عاد بي العمر لن أعمل فى الصحافة وسأتفرغ للكتابة، فقد أضرني هذا الأمر كثيرًا”.
لم يكن الغيطاني يخشى الموت، لكنه استشعر قسوة النسيان ووحشة الفراق، فى تجلياته أمام قبر والده نعى ما سوف يكون: “قلت لنفسى ولم أقل لمخلوق.. أليس فى هذا جور؟.. أليس فى ذلك قسوة؟.. هذا العمر، تلك المعاناة الطويلة، تلك الأيام والليالى، هل تنتهى هنا وتصبح نسيًا منسيًا، هل يبهت أثره، ويضيع خبره هنا؟”، ثم عاد وكرر المعنى: “اسمي سيتساقط كورقة جافة من شجرة الأصل والسلالة”.