شيماء خميس
ارتبط شهر رمضان الكريم بطقوس وشخصيات كلما رأيناهم أو سمعنا عنها شعرنا بدفء الشهر المعظم، بل مجرد سماع أصواتهم يُعيد إلينا طفولتنا التي ارتبطت بهم، بين أعداد قديمة من مجلة “الكواكب” يعود تاريخها إلى منتصف السبيعنيات وجدت حوارًا مع الشيخ الجليل “مصطفى إسماعيل” يحكي فيه عن ذكرياته في شهر رمضان.
“إسماعيل” الذي ارتبط صوته في آذاننا بشهر رمضان، صاحب المدرسة الفريدة في التلاوة والتجويد، فقد كان يجيد القراءة بجميع المقامات الموسيقية وعددهم (18) مقام، ولقبه البعض بـ “رئيس جمهورية التلاوة”
النشأة والعائلة والبداية
ولد في السابع عشر من يونيو سنة 1905 ببلدة ميت غزال مركز السنطة في محافظة الغربية، وحفظ القرآن كاملا وهو في الثانية عشر من عمره، ودرس بالمعهد الأحمدي بمحافظة طنطا.
أثناء إقامته بطنطا توفى أحد أعيان المدينة ودعاه أحد اقاربه للقراءة بالعزاءـ “خرجت مثل باقي الناس نستقبل الجثمان ويوم العزاء دعاني أحد أقارب السيد القصبى للقراءة بالعزاء وكان عمرى 16 عاما ولبست العمه والجبه والقفطان والكاكوله، وأراد الله أن يسمعني جميع الناس من المديريات وجميع أعيان مصر، وذهبت إلى السرادق الضخم المقام لاستقبال الأمير محمد علي الواصي على عرش الملك فاروق وسعد باشا زغلول وعمر باشا طوسون وأعيان مصر وأعضاء الأسرة المالكة في ذلك الوقت، وحضر العزاء أيضا أعيان الاسكندرية وبورسعيد وجميع أعيان القطر المصرى، ولم يكن هناك مكبرات صوت فقررت أن اُسمع السرادق كله صوتى وعندما انتهى أول القراء، ونزل من على الدكة قفزت على الدكة وجلست وفجأه نادى قارئ قائلاً انزل يا ولد هوه شغل عيال، حتى حضر أحد أقارب السيد القصبى وقال للشيخ حسن هذا قارئ مدعو للقراءة مثلك، وقرأت وأبهرت الحضور بتلاوتى”.
استمع إليه الشيخ محمد رفعت، وقام ليصافحه ويقول “والله عظيم جداً .. أنت سيكون لك مستقبل عظيم في دنيا قراءة القرآن وحافظ على صوتك وعلى نفسك”، وذاعت شهرته في أنحاء محافظة الغربية والمحافظات المجاورة لها ونصحه أحد المقربين منه بالذهاب إلى القاهرة.
نرشح لك: محمد رفعت.. الصوت الذي تُفتح له أبواب السماء
الانتقال إلى القاهرة
تغيب الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي عن احتفال كبير لظرف طارئ وقدمه أحد المشايخ للقراءة في الاحتفال وأعجب به الحاضرون وأذيع الحفل عبر موجات الإذاعة المصرية وسمعه الملك فاروق، وفوجئ الشيخ مصطفى بالعمدة والمأمور يقفان أمامه فى حالة من الذعر يطالبانه بأن يسلم نفسه فورا للديوان الملكى، وهناك تسلم نسخة من قرار تعيينه قارئاً للقصر الملكي على الرغم من أنه لم يكن قد اعتُمدَ بالإذاعة.
من الحكام للبسطاء!
سلب الشيخ مصطفى قلوب المستمعين جميعا وأحبه البسطاء والحكام على حد سواء، فقد كان يسافر كل عام إلى صعيد مصر ليحيي هناك الليالي الأولى من شهر رمضان ويجتمع حوله عشاق صوته من أهل الصعيد، وكان يحيي الكثير من المناسبات في المساجد التاريخية في القاهرة والإسكندرية مثل مسجد الحسين والسيدة زينب والجامع الأزهر ومسجد السلطان أبو العلا، ومسجد المرسي أبو العباس، وبعض مساجد في المناطق الشعبية مثل باب الشعرية وبولاق، بالإضافة إلى الكثير من محافظات الدلتا والصعيد.
خصص له الملك فاروق قاعة لاستقبال ضيوفه في الليالى الرمضانية بين الملك والحاشية من الوزراء وكبار رجال الدولة.
بعد رحيل الملك فاروق عن حكم مصر ظل الشيخ مصطفى إسماعيل قارئ القصر في فترة حكم محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر ثم السادات حتى وفاته عام 1978.
جوائز وتكريمات
لم يقتصر عشاق صوت الشيخ مصطفى إسماعيل على الاستماع إليه في مصر فقط، بل تواجد في الكثير من الدول العربية والأوربية والتي بلغت عددها 25 دولة.
زار الشيخ مصطفى إسماعيل مدينة القدس عام 1960، وقرأ القرآن الكريم في المسجد الأقصى في إحدى ليالي الإسراء والمعراج، وزارها مجدداً سنة 1977برفقة الرئيس السادات. كذلك اختاره ضمن الوفد الرسمي لزيارته للقدس سنة 1970.
حصل الشيخ مصطفى إسماعيل على وسام الاستحقاق من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ووسام الفنون عام 1965، وسافر عام 1975 إلى تركيا وقوبل بحفاوة كبيرة وقابل رئيس وزراء تركيا ووزير الثقافة التركي وفي نهاية الزيارة أهداه مصحفا شريفا كُتب بماء الذهب، كما حصل على وسام الشرف من الطبقة الأولى من رئيس وزراء لبنان عام 1975، وأهداه الرئيس مبارك وسام الامتياز عام 1985، ووسام الاستحقاق من سوريا، كما حصل على أعلى وسام من ماليزيا، ووسام الفنون من تنزانيا.
نرشح لك: سيد النقشبندي.. صنايعي الإنشاد “ماشي في نور الله”
عن الفن والفنانين
يرى الشيخ مصطفى إسماعيل أن “الفن مرتبط بالإنسان وبالعوامل البيئية والإجتماعية والنفسية والسياسية الذي يعيشها ويؤثر ذلك على خطه الكلاسيكي، والعلم يقول أنه لا يوجد حركة بدون مادة والعرب والمصريين على وجه الخصوص يفتقدوا الطابع الفني الكلاسيكي الخاص بهم رغم امتلاكهم للمادة، وعلى المبدعين والملهمين إيجاد الحركة، وتلاوة القرآن وتجويده ما هي إلا حركة من القلب إلى الفكر وفتح للصدور والعقول، فالفن هو فتح للصدور والنفوس معا وتحركا كاملا لتلك المادة، والفن يرسم ما يجب أن يكون وليس ما كان وما هو واقع، وأقول لبعض المثقفين الذين يرون الفن قاصر على أن يرسم حلول أن الفن هو الحل الأمثل وهو ليس حرفة ولا مهنة إنما امتزاج للأفضل”.
بعد تلاوة استمرت ساعة كاملة في ذكرى الأربعين للفنان عبد الحليم حافظ أطار بها الشيخ مصطفى عقول الحاضرين من حلاوة الصوت وإتقان فنون التجويد، قامت السيدة رتيبة الحفني عميدة المعهد العالي للموسيقى (آنذاك) لتصافحه وتشكره قائلة: “ما هذا الجمال يا فضيلة الشيخ؟ والله أنت وحدك معهد كامل للموسيقى”.
كان الموسيقار الراحل عمار الشريعي يحلل تلاوات الشيخ موسيقيا وبالتحديد من حيث المقامات فقد كان من أحد معجبين صوته وأدائه وكان يقول: “يمتلك إمكانات لم تتح لشيخ آخر”.
فى أحد الاحتفالات أمعن الشيخ مصطفى إسماعيل فى “السلطنة” فألهب مشاعر المستمعين وأفرطوا فى مقاطعته بالآهات والتعليقات فغضب الشيخ مصطفى وأحس أن جلال لحظة الاستماع إلى كلمات الله تضيع، فتوقف عن التلاوة صائحا فى الجمهور: “عيب كده .. لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لوجدته خاشعا”.
وصفه الموسيقار محمد عبد الوهاب قائلاً: “يفاجئنا دائما بمسارات موسيقية وقفلات غير متوقعة، وله جرأة في الارتجال الموسيقي والصعود بصوته إلى جواب الجواب بشكل لم نعرفه في أي صوت حتى الآن”.
ذكر الكاتب عمر طاهر في كتابه “صنايعية مصر” أنه حينما مات سعد زغلول أقيم فى كل محافظة سرادق عزاء، أحدهم فى محافظة دمياط، أحيا الشيخ “إسماعيل” الليلة ثم عاد من هناك بزوجة، وصفها ذات مرة فى حوار صحفى “أنها ماهرة فى العزف على البيانو”، وطلب منها أن تعزف قليلا، فعزفت أغنية لـ (ليلى مراد) بينما يقف إلى جوارها يستمع إليها، وابتسم عندما أنهت عزفها قائلا: “أحسنتى”، ثم نشرت الصحيفة صورتهما معا، لم يعلق وقتها أحد على كون زوجة واحد من كبار المقرئين غير محجبة، ولكن علقوا باستحسان على وجود بيانو فى بيته.
الوفاة وأمنيته الأخيرة
حضر الشيخ مصطفى افتتاح جامع البحر بمدينة دمياط يوم الجمعة 22 ديسمبر 1978 في حضور الرئيس السادات وأثناء عودته طلب من السائق الرجوع إلى قريته بجوار طنطا وعند مفترق الطريق طلب التوجه إلى فيلته بالإسكندرية وطلب من سائقه أن يضع المشمع فوق السيارة فتعجب السائق لهذا الطلب فقال له: “أنا مش طالع تانى يا سيدي”
وبعد أن أوصى مساعدة منزله وزوجها على المنزل توجه إلى غرفة نومه وأخبرها أن رأسه تؤلمه ثم سقط متعبا على سريره فظنت أنه مُتعب من السفر وتركته نائما إلى اليوم التالي، ولم تعلم أنه أصيب بإنفجار في المخ، وتم نقله إلى المستشفى في حالة غيبوبة تامة لعدة أيام إلى أن توفى في صباح يوم الثلاثاء 26 ديسمبر عام 1978، وأقيمت له جنازة رسمية، وتحقق له ما أراد فقد ظل يردد دوما: “اللهم لا تحرمني من التلاوة حتى ألقاك”، وآخر شيء فعله قبل وفاته هو تلاوة القرآن الكريم.
في أحد زياراته لألمانيا تم دعوته لأحد قصور أصدقاء ابنه وشاهد داخله مجموعة من المقابر مخصصة للعائلة وأنبهر بالفكرة وقبل وفاته أخبر أبنائه أنه يتمنى أن يُدفن بمنزله ويظل متواجد وسط أسرته بعد رحيله وحينما علم الرئيس “السادات” الخبر حزن كثيرا، وفور علمه بوصية الشيخ مصطفى وافق وأخبر شقيق الراحل: “روح ابني له المقبرة زي ما كان حابب.. الله يرحمك يا شيخ مصطفى”، فرد متسائلا: “من غير تصريح ولا حاجة؟”، رد السادات “إذن إيه.. أنا رئيس الجمهورية بقولك روح نفذ الأمر”.
ودفن الشيخ مصطفى إسماعيل في مسجده الملحق بمنزله في قرية ميت غزال مسقط رأسه.