محمد حسن الصيفي
في هذه السلسلة يقدم لكم إعلام دوت أورج “أحد عشر كوكبًا” هم أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، لم يخل بيت في مصر والعالم العربي من أصواتهم وتلاوتهم .. تجمعنا بأصواتهم ذكريات طويلة ومواقف لا تُنسى، نحاول الدخول إلى تلك المجموعة من الكواكب الساطعة التي أضاءت العالم من حولها من خلال تاريخ ومواقف سطروها بحروفٍ من نور
نرشح لك – أحمد عبد الصمد يكتب: مهمة خاصة.. الفارون من الحياة إلى المجهول
1919
تهب في مصر ثورة مجيدة، يشترك فيها كل أطياف المجتمع، بزعامة الخالد سعد غلول، طوفان وبركان يعيد تشكيل كل الأشياء من حوله، ويخرج من طياته عصير العظماء.
1920
بعدها بشهور .. يخمد البركان ولو قليلاً، ليستخرج جواهره وماساته، فيولد طفل سيسمع العالم، بل وسيبكي ويأن معه وكأنه يعيش مأساته.
1928
يقف طفلاً صغيرًا في ساحة مسجدٍ كبير، أتم حفظ القرآن الكريم كاملاً وهو الآن في الثامنة من عمره، يرى نفسه ولكن في عمر كبير، يقدمه مذيع وقور بكلمات مهيبة “من مسجد لالا مصطفى باشا بدمشق، يتلو علينا مُقرأ الجمهورية العربية المتحدة الشيخ محمد صديق المنشاوي ما يتيسر من آيات الذكر الحكيم !
ينتقل المشهد إليه الآن وهو كبير ونحن في عام 1960 ، يجلس متأهبًا ليتلو سورة يوسف، والناس في صمت كأن على رؤوسهم الطير، يبدأ في التلاوة .. يصل إلى قوله تعالى “إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ..” فيصيح الناس، يتذكر أولاده الأحد عشر وحياتهم وخوفه عليهم..
يكمل القراءة حتى يصل إلى قوله تعالى “وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم” فتتداخل حدود المجرة، وتتهاوى كل الثوابت، يتخطى حاجز الزمان الضيق والمكان، يخر باكيًا فيبكي معه الناس ويهللون ويصيحون، يتذكر أخيه وشقيق روحه “أحمد صديق المنشاوي” صاحب الصوت والوجه المليح الذي فارقه وهو في شبابه … فتذوب حنجرته حزنًا وأسفًا بهيًا عليه.
العودة للطفولة
يعود الطفل من المستقبل، يجد نفسه في قريته بمحافظة سوهاج، يعيش في كنف عائلة تشبه المجموعة الشمسية، فوالده الشيخ صديق تايب المنشاوي القارئ الماهر، وعمه الشيخ أحمد السيد الذي رفض التلاوة في القصر الملكي لرفضه للعبث واللهو على المقاهي وقت التلاوة.
وهو قبل أربع سنوات بدأ حفظ القرآن، ومن سن الرابعة إلى الثامنة أتم حفظه، ومن الثامنة حتى الثانية عشر درس القراءات بعد أن ذهب مع عمه إلى القاهرة لكي يتفرغ لها ويتقنها.
إندونيسيا
الآن صار في الثانية عشر، يحفظ القرآن الكريم كاملاً عن ظهر قلب، ويتقن قراءاته يقف بعيدًا في نهاية المسجد يشاهد نفسه مذا سيفعل هذه المرة.
يبدأ القراءة الآن فيقف له الناس ويرفضون الجلوس أثناء تلاوته للقرآن الكريم تعظيمًا وتبجيلاً له ولأحد أهم سفراءه على مر التاريخ، فيندهش الطفل الصغير من جلال الموقف فيجهش بالبكاء
يفتح عينيه مرة أُخرى ليجد الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو يمنحه وسام الإستحقاق من الدرجة الأولى !
العودة إلى القاهرة
يعود من المستقبل الرائع فيجد نفسه شابًا فتيًا ولايزال في قريته لا يبرحها، متواضعًا مُقدسًا لكتاب الله ومحافظًا على تلاوته.
يُطلب منه أن يقدم نفسه لاختبارات الإذاعة المصرية فيرفض، فأرسلت إليه الإذاعة وقد بلغت شهرته وقتها جميع أنحاء مصر، وأصبحت أصداء صوته تشنف الآذان .. ليطلبوا منه أن يتقدم بطلب للإذاعة ليتم اختباره وفي حال اجتيازه بنجاح سيعتمد قارئًا بها .. فرفض
“لا أريد القراءة بالإذاعة فلست في حاجة إلى شهرتها، ولا أقبل أن يعقد لي هذا الإمتحان أبدًا”
وكيف يصير هذا الأمر وهو عائد من مستقبل يُكرّم فيه بوسام رفيع والناس يهللون ويصيحون له في آسيا، ويقفون له وهو يقدم حنجرته إليهم بطيب خاطر !
التاريخ يتحرك لعائلة المنشاوي
بعد رفضه للمرة الثانية أمر مدير الإذاعة بأن تنتقل الإذاعة إليه حيث يقرأ، ففوجئ الشيخ وكان يُحيي حفلاً رمضانيًا في إسنا بمندوب الإذاعة الذي حضر ليسجل له التلاوة، بينما مندوبًا آخر يقوم بتسجيل تلاوة والده صديق المنشاوي والذي كان كان بقرأ بالعسيرات بسوهاج !
وكانت المرة الأولى في التاريخ التي تنتقل الإذاعة بهيئتها ومعداتها ومهندسي التسجيل بها لتذهب لأحد القراء والمشايخ، وكانت من نصيب آل المنشاوي، الوالد صديق وابنه محمد.
ورغم هذا كان المنشاوي معارضًا بشدة وأخيرًا اقتنع بعد إلحاح شديد وتدخل من اللواء عبد الفتاح باشا وهو أحد المقربين إليه فذهب أخيرًا للإذاعة واستكمل تسجيلاته ومنذ ذلك اليوم والعام 1953 وهو قارئًا بالإذاعة المصرية إلى يوم وفاته، بينما اكتفي والده صديق المنشاوي بإبنه وفلذة كبده محمد في الإذاعة وتراجع هو عنها.
الشيخ محمد صديق المنشاوي ووالده وولده
وابيضت عيناه من الحُزن
يجلس الأب صديق المنشاوي في منزله، وبعد اثنين وعشرين عامًا من فقد أحمد يصله خبر وفاة محمد درة تاج آل المنشاوي، وصدّيق المنشاوي له من اسمه حظّا وافرًا، فيصدق الخبر، يذعن ويؤمن ويستسلم لإرادة الله الذي لا يعجزه شيئًا في الأرض ولا في السماء.
فهو صابر وصامد كالجبال يحمد ربه ومولاه، لكنّه ينهد بعد ذلك من وفاة الإبن البار، كثيرًا ما يجلس الآن في الشرفة التي اعتاد الإبن الجلوس بها وهو يستمع لتلاوته وهو يقول “إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون” فتملأ قلبه سكينة ..
يجلس الأربعاء من كل أسبوع في تلك الشُرفة، يفتح الراديو .. يُغمض عينيه، الثامنة مساءًا تبدأ الإذاعة في بث التلاوة المنتظمة للإبن محمد .. يدخل معها في عالم آخر، عالم خاص به وملكه واحده لا يجرؤ أحد على اقتحامه أو الاقتراب منه، يغيب فيه عن الواقع وتجمعه المشاهد بولده وهو الذي صار يُجسد كل شئ بصوته، يتذكر طفولته، أخلاقه الطيبة وحب الجميع له، حرصه الشديد عليه وعلى حفظه للقرآن، أسفاره وتلاوته ومقام النهاوند الذي كان يفضل القراءة به، مسحة الحزن التي تعتصر قلوب العالم، تكريمه في سوريا وإندونيسيا ونسيانه في مصر وهو الذي طاف العالم يحمل اسمها على كتفه فلم تجد سفيرًا رفيع المستوى مثله يسمعه العالم ويتأثر له بل ويبكي وينهد ويصيح من فرط التأثر بحنجرته.
حبه للعائلة، بساطته، السيدة التي تمنت أن يقرأ لولدها بعد أن أنجبته بعد اشتياق فيتدخل في الحوار وهو بالقرية والسيدة لا تعرف هيئته ويعدها أن يتحدث إلى الشيخ ويطلب منه .. وبالفعل يذهب، حبه الشديد للأطفال الصغار
إصابته بدوالي المرئ .. تغلبه على ألمه ومجاهدته لنفسه حتى يقرأ ويقرأ بصوتٍ مرتفع، عامه الأخير الذي كان ينسحب الناس فيه بهدوء للمسجد أسفل منزله ليسمعوا صوته وهو يشدو دون أن يعرف .. وفاته التي لم يشبه لها مثيل ..
كل شئ يمر أمامه في تلك الدقائق، مشاهد سريعة متقطعة يغطيها بكامل الشجن صوت ولده الذي لم يعرف التاريخ مثله، والذي وافته المنية في اليوم العشرين من شهر يونيو عام 1969
ليترك لنا صوتًا لم يتكرر عبر التاريخ ويظل الوالد يومئ برأسه ذات اليمين وذات الشمال من التأثر والبكاء محافظًا على عادته كل أسبوع ومتى شاء ..
الكوكب القادم “أبو العينين شعيشع”