في هذه السلسلة يقدم لكم إعلام دوت أورج “أحد عشر كوكبًا” هم أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، لم يخل بيت في مصر والعالم العربي من أصواتهم وتلاوتهم .. تجمعنا بأصواتهم ذكريات طويلة ومواقف لا تُنسى، نحاول الدخول إلى تلك المجموعة من الكواكب الساطعة التي أضاءت العالم من حولها من خلال تاريخ ومواقف سطروها بحروفٍ من نور.
دائمًا ما يختلف العباقرة والمبدعون عن الباقين من حولهم، فبينما يلعب الأطفال ويلهون يتردد الطفل صاحب الترتيب الثاني عشر والأخير في إخوته على سُرادقات العزاء وحفلات التلاوة في قريته وهو لايزال في السادسة من عمره، يحلُم بأن يكون واحدًا منهم، ويسعى لحلمه مبكرًا جدًا، فلازمته البركة أينما حل وارتحل.
قبل ذلك بست سنوات وأكثر فكرت أمه في التخلص منه قبل قدومه، وهو لايزال في أحشائها لكن لم تنجح المحاولة، فلقد كانت الأُسرة فقيرة بالدرجة التي تجعل تحمل فردًا جديدًا أمرًا في غاية الصعوبة …
لكن إرداة الله حاضرة في كل لحظة، وُلد الطفل البهي ولم يكن يهوى اللعب مع الأقران، بل كان يهوى سماع وتلاوة القرآن.
فكان أبيه يحبه حُبًا جمًا ويرعاه ويأخذ على يديه، ويوم أن وصل للتاسعة وصل أبوه إلى جوار ربه، فرق قلبه وسكنه الحزن لم يبرحه، واكتسى صوته بشجن زاد صوته جمالاً وبهاءًا وتفرُدًا طوال عمره.
نرشح لك: أحد عشر كوكبًا (1).. المنشاوي: والد صدّيق وولد صادق
بداية مثالية
والطفل العاشق لتلاوة القرآن وسماعه يطارد أحرف النور مثل الفراشات، ومن البيت لحفلات الذكر والتلاوة للإذاعة المدرسيّة، وهو في الإذاعة المدرسيّة نال طعم النجاح والشهرة على صغر سنه فأصبح قارئها الأول المعتمد حتى أن أستاذه منير جرجس مدير المدرسة ذهب لمنزله برفقة بعض الأعيان لينصح الأم بأن تجعل مسيرة الطفل أبو العينين شعيشع وحياته للقرآن.
وبوفاة الوالد أصبح الصغير اليافع هو المتحمل لأعباء الأسرة تاركًا حلبة التعليم، لكنّه أبدًا لم يترك تلاوة القرآن ولا حفظه بل كان يسير به جنبًا إلى جنب مع العمل، فعلى نجمه وارتفعت أسهمه وأصبح أشهر قارئًا للقرآن بقرية بيلا بكفر الشيخ.
من السُرادق إلى الإذاعة
ومن تلك السرادقات التي عرفها جيدًا وألفها وفي إحداها كانت أبواب التاريخ والأمجاد تنتظره، حيث اقترح عليه الشيخ الخضري أحد أقاربه وقد كان عالمًا بالأزهر أن يقرأ في واجب عزاء ذهبوا إليه بالقاهرة وذلك في عام 1939 فقرأ وأجاد وتألق وأخذ بألباب الحضور وأسر قلوبهم وفيهم من فيهم من الوزراء والكُبراء والعلماء فذهب إليه الشيخ عبد الله عفيفي إمام الحضرة الملكية واتفق معه على الإلتحاق بالإذاعة من خلال الاختبار وقد ذهب بالفعل وقرأ لمدة تجاوزت النصف ساعة أمام اللجنة وكان بها مشرف إنجليزي وهو الذي أشار إليه بعلامة النصر مطمئنًا له على كونه نجح في الإختبار
موهبة مبكرة ونجاح منقطع النظير
مع التعب والكد والمعاناة التي كابدها أبو العينين شعيشع منذ الصغر ونومه أحيانًا في السرادقات من شدة الإرهاق وهو طفل آتت تلك الفترات أُكُلها، فبعد تألقه في الإذاعة ولفت الأنظار إليه بشدة من الداخل والخارج طُلب خارج الديار للقراءة كقارئ محترف، حيث طلب للقراءة في إذاعة الشرق الأدنى وكان مقرها ذلك الوقت في يافا بفلسطين وبالفعل ذهب وظل يقرأ من هناك حتى نشوب حرب فلسطين 1948 فعاد مستقرًا لمصر بعد فترة من الإبداع.
مدرسة لم تتكرر
والشيخ أبو العينين شعيشع ليس مجرد قارئ جيد وحاذق ومتمكن .. ليس مبدعًا فقط، بل كان رائدًا وصاحب مدرسة بالغة الصعوبة والتعقيد في مسألة التقليد، وإن حاول البعض تقليد صوته فمن يملك بلوغ مسيرته والاقتراب منها؟
فهو أول قارئ مصري يقرأ بالمسجد الأقصى في الخمسينات وهو شرف لا يضاهيه شرف ومكرمة اختصه الله تعالى بها دون غيره ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه طاف العالم الإسلامي شرقًا وغربًا يتلو ويشدو ويرتل.
شرف إضافي
وهو على ما وصل إليه بعد عناء وموهبته الغنية كان محبًا وصديقًا وفيًا للقارئ العظيم محمد رفعت، وهو الذي أتم أسطواناته التالفة في الإذاعة دون أن يلتفت أحد لهذا الأمر، لقدرته في الوصول للطبقة التي قرأ بها الشيخ رفعت، يقول الكاتب الكبير محمود السعدني: ولا يستطيع أحد أن يتبين الفرق بين صوت الشيخ شعيشع والشيخ محمد رفعت في تلك الاسطوانات والأشرطة إلا عبقري مثل محمد عبد الوهاب أو سميع قديم وخبير مثل كمال نجمي.
يُكمل السعدني في “ألحان السماء”:
وفي عام 1948 بلغ أجر الشيخ أبو العينين شعيشع مائة جنيهه في الليلة الواحدة وأصبح يتقاضى خمسة وعشرين جنيهًا عن كل إذاعة له في محطة القاهرة وهومبلغ لم يصل إليه إلا أربعة من كبار القراء “مصطفى إسماعيل، عبد الفتاح الشعشاعي، محمد الصيفي، وأبو العينين شعيشع”
ولكن .. للدراما رأي آخر
والحياة دائمًا لها حسابات، ففي الستينات أصابه مرض غريب في صوته أثر على أحباله الصوتية، ثم مات أخوه أحمد وهو بمثابة الوالد له فكانت فترة حزينة وثقيلة على قلب الشيخ، لكنه بصبره وعزمه تخلص من مرضه وأحزانه وعاد لعشقه لأحرف النور وتلاوة الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهو على ألمعيته وعلو نجمه في القراءة لم يكتفِ بالتلاوة بل حارب لإنشاء نقابة للقراء برفقة كبار القراء فكان له ذلك، وتم انتخابه نقيبًا للقراء عام 1988 ليبدأ رحلته في اكتشاف أصوات مصرية عظيمة تكمل مسيرته ومسيرة العظماء الأوائل .. توفي عام 2011 عن عمر 88 عامًا.
الكوكب القادم: “عبد الباسط عبد الصمد”