محمد حسن الصيفي
في هذه السلسلة يقدم لكم إعلام دوت أورج “أحد عشر كوكبًا” هم أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، لم يخل بيت في مصر والعالم العربي من أصواتهم وتلاوتهم.. تجمعنا بأصواتهم ذكريات طويلة ومواقف لا تُنسى، نحاول الدخول إلى تلك المجموعة من الكواكب الساطعة التي أضاءت العالم من حولها من خلال تاريخ ومواقف سطروها بحروفٍ من نور.
نرشح لك – أحد عشر كوكبًا (2) أبو العينين شعيشع: الكروان صاحب المسيرة الإستثنائية
حين تتأمل عموم المشايخ والقُراء وكواكب التلاوة المصرية ستجد أنهم المعنى الأقرب لكمال مفهوم الصبر، فالواحد منهم يعتمد على صوته فقط لكي يصل، يصبر ويقرأ ويتعلم ويردد ويرتل ويجوّد.. وهو لا يعتمد على صوته سوى بالاستزادة من الجمال والحُسن والبهاء.
وعبد الباسط عبد الصمد لم يكن ليملك مقومات وأدوات الصوت الجميل فقط، فلقد منحه الله صفاء النفس وجمال الهيئة بالدرجة التي عرضته للكثير من المواقف المحرجة والمشكلات !
نرشح لك – أحد عشر كوكبًا (1).. المنشاوي: والد صدّيق وولد صادق
فالشيخ القادم لعالم الأضواء والنجومية والشهرة لم يكن يعلم أن حنجرته الذهبية التي يتلو بها كلمات الذكر الحكيم ستسحب بساط المعجبات إليه، وستعرضه لمشكلات بالغة الحرج والتعقيد في بيته. فما تناولته مجلة “أهل الفن” في سبتمبر 1955 يؤكذ ذلك من خلال حوارها مع الشيخ، وكذلك تصريحات زوجته التي طالبت وقتها بتغيير رقم الهاتف وبعد تغييره وصل إليه المعجبات وبنفس الكثافة وأكثر، معجبات تخطين حدود الخريطة المصرية، معجبات من سوريا ولبنان وسائر البلدان العربية، ولمعجبات سوريا قصة، فإحداهن ظلت تطارد الشيخ مما كاد أن يعصف ببيته وبعلاقته العظيمة بزوجته التي تحملت مثل هذه القصص وغيرها الكثير بصبر كاد أن ينفد وقتها.
ولكن قبل الأضواء، كيف جرت الأمور أثناء الصناعة في الظل؟
قبل ذلك بسنوات طويلة ولد عبد الباسط محمد عبد الصمد بقرية المراعزة التابعة لأرمنت بمحافظة قنا 1927 وهو من نبتٍ طيّب، فوالده لأمه العارف بالله الشيخ الجليل أبو داود صاحب المقام المعروف بأرمنت ووالده حافظًا ومجودًا للقرآن الكريم، وأخوين حفظا القرآن قبله، ثم جاء هو ليكمل المسيرة.. بل ليقلب الموازين ويعيد صياغة التاريخ بصوته وحده، فمن سبقوه من العائلة كانوا جذورًا لأحد أعظم النباتات في التاريخ، فامتدت الجذور تثبت الساق، ليقف عبد الباسط الابن والأخ والولد شامخًا يناطح من كان يحلم بالاقتراب منهم.
وعبد الباسط هذا النابغة والصوت الذي لم يشبه أحد أتم حفظ القرآن في العاشرة، وحين أراد والده أن يرسله إلى طنطا لتعلُم القراءات وعلوم القرآن على يد الشيخ محمد سليم، وقفت المسافة حائلاً لبعد المسافة بين أرمنت وطنطا، وحين قرر أن يرسله والده على أي حال وقبل السفر إلى طنطا بيومٍ واحد تحرك التاريخ قليلاً ليريح صاحب الحنجرة الذهبية من عناء ومشقة السفر، فعلم بوصول الشيخ محمد سليم إلى أرمنت ليستقر بها مُدرسًا للقراءات بمعهدها الديني !
وبعد أن أتم عبد الباسط عبد الصمد حفظ القرآن بعلومه وقراءاته السبعة أصبح مطلوبًا في قريته والقُرى المجاورة والضواحي ..
القاهرة دائمًا هي الحل
بعد أن ذاع صيت الشيخ وازداد بهاءً وروعة في قريته وفي قُرى الصعيد، كان لابد أن يأتي للقاهرة وحدث ذلك بالفعل عام 1950 جاء لزيارة السيدة زينب وكانت زيارة السعادة بحق..
ففي الليلة الختامية للمولد وبينما قرأ الفطاحل وقتها وأصابهم الإرهاق اقترح البعض عليه أن يقرأ ولو لوقتٍ قليل حتى يعود المشايخ لمواصلة القراءة .. فقرأ وأجاد وتألق وأدهش الناس فكادت عقولهم أن تطير.. ومن يومها والشيخ في القاهرة وحفلات التلاوة وعقودها المغرية لا تنتهي حتى قرر ترك الصعيد والاستقرار بالقاهرة بوابة السعد والمجد الكبير.
وقد تم اعتماده بعدها بالإذاعة بعد أن ارتفع نجمه في التلاوة وأصبح من المشاهير وذلك عام 1951 وقد أرسل أحد المشايخ تسجيلاً للجنة الإذاعة فأعجبوا أيما إعجاب بصوته واعتمدوه دون امتحان.
وبعدها طاف الشيخ بلاد الله شرقًا وغربًا وسافر فرنسا ولندن وذهب إلى آسيا وقرأ للملك وحده في مراكش، وتأثر وبكى من حجم التأثير الذي تركه في نفوس محبيه من كل أنحاء العالم، فقد كان بعضهم يظل واقفًا باكيًا من فرط التأثر بصوت الشيخ.
كره الصحافة
لكن الشيخ صافي النفس طيب القلب المتبتل بكتاب الله لا يزعجه سوى كذب الصحافة وتهويلها وافتراءها عليه في بعض الأحيان
فمرة يطلقون عليه براندو العرب وهذا التشبيه يزعجه كثيرًا فهو قارئ للقرآن ومتعبدًا بتلاوته وبراندو ممثل أمريكي.. يعتقد الشيخ أن التشبيه ليس في محله.
وتارة أخرى يكافح من أجل لقب معبود نساء الشرق؟!
وهذه الأمور كانت يضيق لها صدر الشيخ وينزعج وتضعه تحت بقعة الضوء بشكل أكبر فتحدث مشكلات ليس له دخل فيها وتطارده المعجبات فيستغفر الله حتى أن الأمر وصل لعمل تمثال له وكان شديد الرواج !
لكنه كان في النهاية يسامح ويغفر، وهو يميل للعزلة الطيبة والتأمل وذكر الله، ويكره الاختلاط، يقرأ للعقاد ويحبه ولا يميل للمسرح والسينما، لكنه يسمع عبد الوهاب ويعتبرأم كلثوم معجزة تضاهي معجزة رفعت في التلاوة ..
والحياة دائمًا ما تحمل الطابع الدرامي المأساوين فبينما الشيخ في أوج شهرته وتألقه يصاب بمرض السكري الذي يجهده وينال منه ومن صوته حتى يلقى ربه بعد أثقل عليه المرض ليتوفاه الله عام 1988 بعد أن ملأ الدنيا بصوته وصنع أمجاد وشهرة وحب من الصعب أن يتوفر لغيره، ونال من الجوائز والأوسمة الكثير إلى جانب كونه أول نقيب لقراء مصر كشرف لا يضاهيه شرف.
شاهد| في ذكرى وفاته.. كيف استقبلت الدول العربية والأجنبية الشيخ عبد الباسط عبد الصمد؟