محمد حسن الصيفي
في هذه السلسلة يقدم لكم إعلام دوت أورج “أحد عشر كوكبًا” هم أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، لم يخل بيت في مصر والعالم العربي من أصواتهم وتلاوتهم .. تجمعنا بأصواتهم ذكريات طويلة ومواقف لا تُنسى، نحاول الدخول إلى تلك المجموعة من الكواكب الساطعة التي أضاءت العالم من حولها من خلال تاريخ ومواقف سطروها بحروفٍ من نور
في يومٍ من أيام الحر القائظ عام 1958، يقف مجموعة من المجندين تحت الشمس الحارقة ينتظرون التوزيع على وحداتهم العسكرية، يتوزعون بالفعل في أنحاء شتى، يأتي الدور على هذا الشاب الطيب، يصطحب مخلته نحو “بلوكات الأمن المركزي” بالدرّاسة … ومن هناك تبدأ الحكاية.
بعد فترة يشعر المجند بالملل ولكنه في معسكر للأمن وليس في نزهة، كيف سيخرج؟
وإن خرج إلى أين سيذهب؟
يبدو أنه أملى على نفسه الأسئلة وترك عقله يشتبك معها…
ثم انطلق عائدًا بذاكرته للخلف، يتذكر الماضي، يُدثر نفسه بالحنين وأيام الطفولة الرائعة، قريته الحبيبة “برما” بطنطا، الكُتّاب الذي تعلّق به وأحب الذهاب إليه، القرآن الذي حفظه وأتقنه قبل العاشرة، الشيخ عبد الغني الشرقاوي الذي جوّد القرآن على يديه، شهرته التي بلغت الأنحاء في طنطا وما حولها من قُرى ومراكز..
يتذكّر يوم أن دعوه في “محلة القصب” بكفر الشيخ في رمضان ليتلوا عليهم القرآن، وتأثر الناس به، وافتتانهم بصوته، وحبهم له ….
تعلمه للقراءات على يد الشيخ إبراهيم الطبليهي الذي قرأ عليه قراءة كاملة برواية ورش عن نافع، يوم أن كان الطبليهي من أكابر علماء القراءات بطنطا …
وما لبث عقله الباطن بعد الاشتباك مع الأسئلة حتى خرج بحلٍ سحري، أخرجه من دوامة الذكريات إلى الواقع ليستكمل خطوات حياته المرصعة باللؤلؤ، الإجابة من كلمتين “مسجد الحسين”
“خطوتين وتكون هناك” هكذا حدث نفسه بكل منطقية.
وبتدبيرٍ إلهي دقيق يُخرج المجند من الضيق إلى الإتساع، فمن العنبر الضيّق بالمعسكر إلى بهو الحسين الواسع، ومن حيرة التفكير إلى رحمة التدبير …
وهكذا شق المجند الشاب طريقه إلى مستقبله، ومن مرة يذهب فيها إلى مسجد الحُسين إلى مرات متعددة وانتظام، ثم لقاء بشيخ المسجد حلمي عرفة، فمعرفة طيبة، فتلاوة أمام الشيخ الذي أدهشه صوت جديد “راغبُ” في الصعود إلى القمة.
وأصبح “راغب مصطفى غلوش” صاحب العشرين ربيعًا على معرفة بشيخ مسجد الحسين، أصبح مهيئًا الآن للظهور بما يليق بمجهوداته الجبارة التي بذلها على مدار اثنى عشر عامًا بين الحفظ والتجويد
والترتيل.
نرشح لك : أحد عشر كوكبًا (4): محمد رفعت: ستار الأنوار الذي غمر أهل الأرض
حدث ذلك يوم أن ذهب إلى المسجد في زياراته المتكررة، وكانت التلاوة يومئذ للشيخ طه الفشني، لكنّه اعتذر فكانت الأقدار قد رسمت أن يكون هذا اليوم ميلادًا لأحد عمالقة التلاوة في مصر في مصر والعالم، فقدّم الشيخ للتلاوة المجند الشاب اليافع “راغب”.
وراغب قرأ وأبدع وتألق وتهلل الناس، وأعجبوا بصوته أيما إعجاب، وحين انتهى من التلاوة لم يكن صراخ الناس وحماسهم وثنائهم عليه هو المكافأة، لقد كانت المكافأة أكبر من ذلك بكثير !
فقد طُلب في استراحة المسجد، وكانت المفاجأة أن في انتظاره رئيس الوزراء زكريا محيي الدين !
فما كان منه إلا أن أدى التحيّة العسكرية إليه، ومن ثم أصدر إليه قرارًا بإلحاقه بمعهد القراءات وعلى قائد الوحدة تنفيذ القرار !
وهذه واحدة من عجائب قدرة الله ومعجزاته، فالشاب الذي جاء قبل أيام من بلدته يفكر كيف ستسير أيامه في معسكر الأمن المركزي، ويتردد بعدها على المسجد الكبير، وبين يوم وليلة، أو بمعنى أدق بين لحظة وأخرى يُصبح في مواجهة رئيس الوزراء الذي يغير مسار حياته بورقة واحدة مضاها !
وللمرة الثانية يكون مسجد الحسين هو أيقونة السعادة والخير عليه، حيث كان من رواد المسجد مدير الإذاعة محمد أمين حمّاد فطلب منه البعض إعطاء كارت للشاويش راغب … الصاعد بسرعة الصاروخ في دولة التلاوة … ففعل وذهب الشيخ لاختبارات الإذاعة وذلك قبل انتهاء مدة الخدمة بشهرٍ واحد، فوجد نفسه بين 160 قارئًا فنجح في التصفية الأولى في كل الاختبارات، ودخل التصفية الأخيرة بين سبعين قارئًا، ومن بعد السبعين قدر الله له النجاح .. فأصبح قاريء الإذاعة وتم اعتماده عام 1962 .
ومن بعدها فتح الله على الشيخ، فبعد انتهاء خدمته واعتماده قارئًا علا نجمه وصيته وانتقل يجوب العالم بعد أن وصل صوته لمسامع العالمين، فطاف العالم العربي وآسيا ولمدة 30 عامًا متتالية
توفي رحمه الله بعد رحلة مع المرض عن عمر يناهز 77 عامًا في 4 فبراير عام 2016