في هذه السلسلة يقدم لكم إعلام دوت أورج “أحد عشر كوكبًا” هم أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، لم يخل بيت في مصر والعالم العربي من أصواتهم وتلاوتهم .. تجمعنا بأصواتهم ذكريات طويلة ومواقف لا تُنسى، نحاول الدخول إلى تلك المجموعة من الكواكب الساطعة التي أضاءت العالم من حولها من خلال تاريخ ومواقف سطروها بحروفٍ من نور
فيلم من مشهدٍ واحد
هو مخرجه وممثله الوحيد، فيلمُ عبقري جاء من مشهدٍ واحد دون تقطيع، لم يتدخل فيه أحد حتى هو، ترك السيناريو للحياة تكتبه، وارتجل المشهد على طول مدته.
يبدأ المشهد بطفلٍ صغير مولود على أحد الأسرة البيضاء، يفرح به أهله، طفل جميل، ينظر إليه عمه باستغراب نظرًا لجسمه الذي يسبق سنه وكأنه في الخامسة من عمره.
ينزل على الشاشة باللون الأبيض بخلفية سوداء “بعد عام” لنجد الطفل يتحرك ومن حوله أهله ثكالى بعد أن فقد الطفل بصره دون سبب مفهوم يشخصه الأطباء.
نرشح لك: أحد عشر كوكبًا (5) راغب مصطفى غلوش: الشاويش الذي استضافه رئيس الوزراء
نفس الشاشة “بعد مرور عشرة أعوام”
تصوير خارجي بالنهار، الطفل يكبر ومع كف بصره يحتد ذكاءه فحفظ القرآن كاملاً، يسير على قدميه في حر “طهطا” الشديد بسوهاج ذاهبًا إلى المبتهل الشيخ النقشبندي الذي يقابله كالعادة بالترحاب ويتهلل وجهه فرحًا بقدوم المبدع صاحب المستقبل الكبير، يقول هات ما عندك .. فيُسمعه …
ينتقل المشهد بعدها إلى ليل القاهرة، حيث يذهب الطفل إلى العاصمة ليلتحق بمعهد المكفوفين للموسيقى وتعلُم فن الإنشاد والموشحات الدينية، ويذهب آخر الليل للبيات عند شقيقته الكُبرى ومن ثم يُقيم عندها.
ذروة المشهد
تصوير داخلي … بعدها بأعوامٍ يجلس لدى الفنان الكبير محمد عبد الوهاب، الآن صار شيخًا يحفظ القرآن ترتيلاً وتجويدًا، يعرف المقامات معرفة الأصدقاء، على نغمات العود يتذكر كل شئ، يغيب في الدوامة، يتذكر شقيقته الكُبرى، أمه الصغيرة التي امتدت يدها لترعاه دومًا، الجيارة بمصر القديمة التي فتحت له أبواب القاهرة ومنها انطلق في شوارعها يرى بقلبه ويسمع بأذنيه، يقف على كل تفصيلة، يطير في البرد ليقف أمام سُرادق لمصطفى إسماعيل فيرق قلبه، تتعثر خطواته أمام أحد المساجد يكاد يسقط لكن يمنعه الصوت القادم من داخل المسجد من السقوط، يقف ويرتكز على حاسته القوية .. يجده الشيخ رفعت .. تسقط الدموع من عينيه، أصدقاءه الذين طالت معهم الرحلة من المنشدين والمشايخ والقُراء نصر الدين طوبار والنقشبندي وسيّد موسى الكبير، سعيد حافظ وصلاح عمّار ومحمود أبو السعود …
حُبه للقاهرة وشوارعها .. مسجد الأنوار الذي كان مفتاح الخير والسعادة عليه، صلاة الفجر التي حافظ عليها أربعين عامًا مهما اشتد به التعب أو استبد به الألم، خروجه بعد الصلاة بصبحة أحباءه لمقاهي القاهرة.
الإذاعة التي التحق بها في السبعينات كمبتهل، تلاوته للقرآن، سورة آل عمران التي يقرأها كأنه لم يقرأ من قبل، وكأن آل عمران تخصص “محمد عمران”
الموسيقى التي عشقها وامتلأت مكتبته بأشرطتها، صداقته بسيد مكاوي وحلمي أمين ومحمد الموجي وتلحينهم له، عبد الوهاب وعبده داغر الجالسين أمامه الآن ينتظران إنشاده بشوق وترقب… يتحمس الآن وينخرط بصوته في أداء لا مثيل له.
نرشح لك: أحد عشر كوكبًا (4): محمد رفعت: ستار الأنوار الذي غمر أهل الأرض
عبد الوهاب الذي ينسجم لدرجة لا تصدق … يظل يردد الله الله الله .. “هذا اليوم ليس محسوبًا من عمري”.
النهاية
ولأن الجميع سوف يرحل وتلك هي الحقيقة الوحيدة في الكون، كان آخر الدقائق في المشهد الأربعاء الخامس من أكتوبر 1994 .. التوقيت قبيل صلاة الفجر بالسيدة زينب وهو يحيي ليلة من أجمل الليالي بمقام الصبا الذي لازمه ولازم حزنه تلك الليلة ووداعه النبيل الرقيق للناس والحياة، وبعد أن ينتهي من ابتهالات الفجر والصلاة يجلس أسيفًا يبكي بجانب المقام يتذكر والده …الذي لم يكن يبكي أمام أحد…. ثمتوفي بعدها بيوم واحد.
توفيّ بعد أن ملأ الأسماع بصوت لم يعرف التاريخ له مثيلاً أو شبيهًا أو مقلدًا، وهو على كل الأحوال لم يكن راغبًا في الدنيا طامعًا فيها، بل كان يحب النغم ويعشق الأصوات، ويجيد في المساحات والمقامات، حبًا صادقًا لم تخالطه أي رغبة من رغبات الدنيا … فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عنا خيرًا.
بعد التتر
انتهى الفيلم ومع النهاية كانت تلك الكلمات على الشاشة بصحبة هذا التسجيل
ولد الشيخ محمد عمران في قرية طهطا بمحافظة سوهاج عام 15 أكتوبر 1944، فقد بصره قبل عامه أن يتم عامه الأول، حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره قبل أن يغادر سوهاج وينتقل إلى القاهرة بعدها بعام للالتحاق بمعهد المكفوفين للموسيقى، حصل على الثانوية الأزهرية وعمل بشركة حلوان للمسبوكات وتعلم أصول القراءات والإنشاد، تم اعتماده مبتهلاً بالإذاعة بداية السبعينات، لحن له العديد من كبار الملحنين والموسيقيين بمصر، توفي السادس من أكتوبر 1994 بعدما هزمه مرض السكر عن عمر يناهز خمسين عامًا.