هالة منير بدير
ما أصعب أن يشعر المرء أنه وحده في هذا الكون الشاسع، يصبح على حافة الجنون خاصة عندما يستعيد شريط الذكريات فيجده مليئا بالأحباء الذين فارقوا الدنيا، ومليئا بالضحك والأمل والنجاحات، ولكن كل هذا يبقى مجرد طيف خفيف يملأ الوجدان للحظات، ثم يصطدم الإنسان من جديد بالواقع المفزع..
نسيمة سوفاليان “نيللي كريم” بطلة مسلسل “اختفاء” لرمضان 2018 ، هي نموذج لكل إنسان كان مقبلا على هذه الدنيا بذراعين مفتوحين، براءة الطفولة تلمع في العينين، لهو الأصدقاء وصحبتهم هي الشغل اللذيذ الذي لا يمل، ومصدر الرزق مما أمنه الوالدان من ميراث، إذا فمن أين سيتسلل الحزن أو سيتسرب الملل؟
كانت فراشة في حركاتها وسكناتها، حتى قابلت الفنان الرسام نادر الرفاعي “محمد علاء” فعاشا معا قصة الحب التي لم يعكر صفوها سوى مشاجرات على توقيت قرار الإنجاب، حتى وقع كلاهما في شرك المجرم المسكين أحمد موافي أو سليمان عبد الدايم “محمد ممدوح” الذي أحال قمة سعادتهما إلى منتهى العذاب، حول الإقبال على الحياة إلى تمني الموت، بدل الأمن والأمان والطمأنينة إلى خوف ورعب وترقب.
أحمد موافي المجرم الذي كان التجسس من صميم عمله، بغية اتهام “نسيمة” وزوجها في قضية جاسوسية انتقاما من نسيمة لعدم الاستجابة لغرض دنيء في نفس رئيس موافي في العمل(كما كان مشهورا في فترة الستينيات)، فكشف عورات الزوجين، ودخل بيتهم جارا ودودا يحضر حفلاتهم ويأكل طعامهم ويشاركهم مختلف أوقاتهم.
وسليمان عبد الدايم المسكين لأنه ببساطة مريض نفسي، فأثناء مراقبته للزوجين وقع في حب الزوجة، وأخذ يتخيلها في أحضانه زوجة وحبيبة، في ذات الوقت الذي بدأ فيه بالتقرب من زوجها ليكسب صداقته وثقته، فقتل حبه المريض الشاذ السادي كل معنى للحياة، فقام بالتخطيط للتخلص من زوجها ليتخذها زوجة له، وبالفعل أحال حياتهما جحيما، ضيق عليهما العيش فزادت الخلافات بسبب نقص الدخل، حتى جاءت ساعة الصفر للإيقاع بالزوجين بتهمة الجاسوسية الملفقة، فقام بسجنها، وخطف الزوج وقتله بطريقة وحشية، ثم عزل الزوجة المسكينة عن العالم، ليظهر ذلك الوحش الكاسر أمامها أنه طوق النجاة الوحيد، فتزوجها؛ ولكنها لم تنس “نادر” فرحة العمر الذي لم تعلم له أرضا، حتى بدأ يغتاظ من تصرفاتها وذاكرتها التي تستدعيه مرارا وتكرارا، حتى شكت في تصرفاته وتتبعته حتى اكتشفت أجهزة التنصت في شقته، ليصيبها الهلع مما رأت.
برع الثلاثي في تجسيد كل المشاعر المتناقضة، الملامح ونظرات العيون والأصوات تتدرجت ببراعة على مدار ثلاثين حلقة، حبكة المسلسل كانت محكمة حتى بدأ المشاهد فعلا يشك أن “سليمان عبد الدايم” بريء وأن كل تلك القصة والأحداث الدائرة في فترة الستينيات من نسج خيال المؤلف شريف عفيفي “هشام سليم” الذي أراد الشهرة لروايته “اختفاء” (عنوان المسلسل)؛ وذلك على حساب رجل أعمال له اسمه وثقله في سوق الأعمال.
أبدعت نيللي كريم في مشاهد “نسيمة سوفاليان” على وجه الخصوص، جسدها الرشيق الذي لاقت له أزياء الستينات، تسريحة شعرها المموجة أيام السعادة وانطلاق الشباب، والتي تغيرت بعد ذلك لتسريحة شعر منساب على الكتفين لتضفي قدرا من الجدية على ملامح الوجه، طريقة الإمساك بالسيجارة تبدلت بعد الأزمة لتظهر توترها وقلقها، مشاهد احتجازها في المصحة النفسية بعد اكتشاف حقيقة زوجها المجرم الذي قتل زوجها الأول، مشهد انهيارها العصبي وكتابتها “سليمان قتل نادر” على جدران الغرفة كان صادقا محكم التمثيل والإخراج، حتى جاء المشهد الأخير (والذي كان المشاهدون ينتظرونه ليتأكدوا من حقيقة بقائها على قيد الحياة)؛ بعيونها الغائمة ووجهها الشائب وهي تنظر للسفاح معذبها، كان له تعبيره في اجترار مرارة 50 سنة مضت ولكن الجرح لم ولن يندمل أبدا.