يقول جمال حمدان في كتابه العبقري “شخصية مصر” ” ليس الريف وجهًا من وجوه شخصية مصر وحسب بل هو نواتها وقاعدة نسيجها على منوال الزمن.
وبعد أن شرح كيف كان الريف هو النواة المصرية الأولى ينهي حديثه قائلاً: “وهذه هي الروح الريفية التي تتنفسها مصر منذ القرية الأولى”.
وبعيدًا عن الاقتباسات دعني عزيزي القارئ أنقل لك هذا التأريخ البسيط الذي حكته لي جدتي رحمها الله – فهذه الفلاحة المصرية البسيطة التي وضعت يدها على مراحل التشوه التي لحقت بالريف المصري لتترك لنا مسخًا ساهم في تكريس أفكار، وممارسات مشوهه ساهمت بدورها في تخريب الشخصية المصرية.
فبدءً من طوفان الهجرة إلى بلدان النفط تحكي لي جدتي حكاية شيخ الجامع – السني أبو دقن هذا الرجل الذي كان يكسب قوته من سرقة الفراخ من على الأسطح والبط من على الزراعية – بل ما يبقى شيخ جامع – وكيف كانت متعته الوحيدة مشاهدة الفتيات وهم يغسلون البلاليص على شاطئ الترعة، وما تعرض له من ضرب مرارًا وتكرارًا نتيجة ضبطه سارقًا أو متحرشًا ببصره، سافر مولانا المتحرش الحرامي إلى إحدى دول الخليج في هوجه السفر بره – كما أسمتها جدتي– ونسيت القرية حكايته كما نسيت حكايات أخري كثيرة، لم تكن هذه الحياة الشاقة المثمرة تسمح بتذكر مثل هذا التافه فالجميع ينام بعد صلاة العشاء مستعدين للقيام فجرًا وأداء الصلاة ثم الذهاب إلى الغيط –الحقل– ليعملوا بتناغم ومحبة واستمتاع، لا يعرفون غلاً ولا حقدًا، لا يتنافسون إلا في جودة المحصول وكثرة الإنتاج، القطن اللي بيضحك، والغلة اللي زى الدهب، وخط البطاطس، وعيدان الذرة، وتحت الضلة في الحر لقمة ليها طعم وريحه والشاي على الراكية– الفحم-، وفلان يساعد جاره النهارده في الري، وعلان حيحصد مع جاره، والكل بيخزن طلباته ويبيع محصوله ويحوش فلوسه ويوسع في أرضه، الأرض اللي كان بيحلفوا بيها جزء من هويتهم وكيانهم، حاجة كده أغلى من عيالهم.
ورجع صاحبنا من بلاد بره، لابس أبيض فأبيض، والفلوس الملونة باينه من جيب جلابيته دقنه مدلدله لحد بطنه، بني بيته بالمسلح على حتة من الأرض اللي اشتراها، تعرف دى كانت أعفى أرض في البلد كان قطنها منور، وغلتها زى الدهب، اتقدم لبنت أغنى واحد فى البلد البت لسه مخلصه الابتدائية اتجوزها وخلاها تتخمر، وبعد كده لبسها الخيمة – حسب كلام جدتي- وأهو من ساعتها يابني قاعد في الجامع يجعر، ويوجع في دماغنا.
وبدل ما كنا بنسمع الكلام الحلو اللي بيفك عننا بقي يسمع البلد في النيلة المكرفون كلام عن عذاب القبر، والتعبان الأقرع، وناكر ونكير، وكره البلد في العيشه واللى عايشنها …. ده باينه يا محمد كان راجع ينتقم من العلق السخنة اللي كان بياخدها على قفاه قبل ما يسافر، ومن ساعتها يابني هو والشيوخ السنيين أمهات دقون كرهونا فى الدنيا، الرجاله بقت تلبس هدوم زعره – لحد ركبهم– والنسوان اتغموا – داهية تغمهم- ، وكل واحد منهم اتجوز أربعة وبقت البلد كئيبة ومقرفة، الحمد لله إن محدش من عيالى سافر بره ورجعلي بدقن، وربنا كنت نتفتهاله بالكماشة .
نرشح لك : د. محمد فياض يكتب: أبو مكة الذى خُلع كتفه فخلع قلوبنا
الحال مبقاش زي الحال، الناس بنت على الأرض، ومنهم اللي باع الطين لمصانع الطوب الأحمر، الأرض تعبت، بقت حزينة صعبان عليها من عيالها، واللى زاد وغطا إن كل واحد عنده قراطين أرض عايز يتمنظر ويبني بالمسلح قام باني على نص الأرض والنص التانى بعد ما كسر ضهره لمصانع الطوب لا بقى يكفي لا خزين ولا محصول، اتنكسنا يابني .
تعرف كله بيأجر أنفار يشتغلوا في الأرض دلوقتي، محدش بيدور لا على أرض ولا نيله، من ساعة المخروب الدش المركزي أبو سلك ما دخل، والناس سهرانة طول الليل تتفرج على المصارعة والأفلام والتمثليات، الكل بقي بيصحي العصر وينام الفجر، ونسوان البلد كلها بتتفرج على الشيخ أبو دقن طويله بتاع قناة الشيوخ، واللي ما كانتش اتخمرت ولا اتخيمت قبل كده كله اتخيم واتخمر.
سمعته امبارح بيقول حرام النسوان تعمل حواجبها، بصحيح يا بني، مع أنه كان عامل حواجبه، الله يخرب بيوتهم لغبطونا خالص، اسكت نسيت أقولك مش مسكوا من كام يوم الراجل السني مع واحدة، قال ايه كان بيطلع لها عفريت من على جتتها، عفريت يولع فيه النجس، ربنا يحرقهم بجاز وسخ .
تعرف يابنى لو اتمشيت في البلد دلوقتي مش حتشوف اللون الأخضر خلاص كله بقى مسلح واللي باع أرضه وعمل سنترال، واللي اشترى عربية نقل، واللى راكب توك توك.
تعرف ده نسوان البلد بطلت تخبز، كله بيشترى من الفرن عشان ياكل هو والفراخ، حتى اللبن بقوا يشتروه بودره محدش بقى عنده بهايم، الأكل بقى ماسخ والفاكهة مالهاش طعم ولا ريحه، ده الكل بقى يطبخ بسمنة نباتي، والصحة بقت في النازل والناس حل على وشوشهم غضب ربنا.
شايف يا محمد فرع النور اللي ماسك من أول البلد لأخرها ده، ده فرح الواد حومشه اللى كان معاك فى المدرسة ومنفعش، أهو عقبال أملتك أبوه شحنه من عشر سنين في مركب صيد وداه إيطاليا كل اللى كانوا معاه غرقوا في البحر، بس هو زى القرد عام، ووصل، واشتغل هناك مرمطون، غسل أطباق وكنس شوارع واتشحطط بس أهوه رجع شايل ومشيل، بنى بيت خمس تدوار، البيت الأحمر في أزرق في أصفر اللى على أول البلد ده، واتجوز بنت العمده وجابلها بـ 200 ألف جنيه شبكة، ما هي دكتورة في الوحدة الصحية، وهو مبيعرفش الألف من كوز الدره حظه حلو ابن الأبالسة مش زى ابن عمته اللي خد الماسستير – هي قالتها كده– وشغال يا عيني على توك توك وكان نفسه في الدكتورة دي بس حيجيب منين اللي معاه هو اللي شال، بس أنا متأكده أنها حتتطلق زى المهندسة بنت شيخ البلد اللي اتجوزت الواد عنبر اللي كان راجع من ايطاليا برضو وكان موريها الذل، أصلها كانت بتعايره بشهادتها.
أهي أيام سودا ومنيلة نص البلد جالها فيرس، والنص التاني شايل الهم، والكل بقى شايل البتاع المحمول على ودنه، والنبى الراجل بتاع الزبالة امبارح بيقولي أول ما أديكى رنة يا حجة طلعيلى الزبالة.
تعرف يابنى أنا عايزه أغمض وافتكر أيام زمان الحلوة، وريحتها الحلوة، وبلدنا وقطننا وغلتنا، أنا تعبانه والسكر هد حيلي والناس والشيوخ الكدابين أمهات دقون كرهونا في عيشتنا، أوعى تكون مفكر أني خايفة من الموت، هو أنا برضو حروح بعيد ده أنا حدفى بتراب بلدنا الغالي، وصيتك تدفنى في البلد جنب أخويا، بطل بقى سيبنى أنا تعبت وعايزه أنام …ده أنت رغاي قوي.
ونامت …. ومن ساعتها وهي لسه نايمه، متدفية بتراب بلدها .
الله يرحمك يا جدتي – الله يرحمك يا ريف مصر .