"كارما".. الفكرة الذهبية والفيلم المتواضع!

نقلًا عن “الشروق”

محمود عبد الشكور

تبدو مشكلة فيلم «كارما» الذى كتبه وأخرجه خالد يوسف، واشترك معه فى كتابة السيناريو محمد رفيع، معقدة تماما مثل بناء الفيلم، ومتعددة الأوجه مثل اللعبة السردية فيه، بالإضافة إلى الصوت العالى والصاخب والمباشر الذى يميز أفلام يوسف، فإن الحكاية هنا مليئة بالأفكار المتشعبة، ومثقلة بكليشيهات مزعجة سواء عن الأغنياء أو الفقراء.

وتنفيذ الفيلم، تمثيلا ومونتاجا، فى أقل مستويات خالد يوسف كمخرج، وكأنه عمل منفذ على عجل، أو كأنهم يحشرون مشاهده حشرا، لكى يستوعبها الوقت المحدد. لا ينقص «كارما» الطموح، بل لعله مشكلة الفيلم؛ لأن القدرة الفنية والدرامية أقل بكثير من هذا الطموح، ولأن التناقض صارخ بين لغز الحبكة، وبين وضوح ومباشرة القضايا المطروحة، إلى درجة تلخيص المعنى كله فى جملة مسموعة، على آخر مشهد فى نهاية الفيلم!.

حدث في برلين

وسط تفريعات واستطرادات كثيرة، ومشاهد ساذجة وأخرى خطابية، تلمع فكرة ذهبية كان يمكن استيعابها فى فيلم محكم ومؤثر، وهى مسألة حلم رجل غنى برجل فقير شعورا بالذنب، وحلم رجل فقير برجل غنى طلبا لسعة الرزق، إنها العلاقة غير المنظورة، ولكنها الموجودة والقوية، بين «الناس اللى عايشة كويس»، و«الناس اللى كويس إنها عايشة»، والتعبير العبقرى للراحل جلال عامر، ربط العلاقة بالحلم يكاد يجعلها بعيدة المنال، كل طرف منعزل عن الآخر، وربما لا يرى الغنى الفقير أصلا، ولكن كابوسا يسلبه النوم ويؤرقه، ليكتشف أن الفقراء موجودون، بل إن الفقير قرينه الذى يشبهه تماما فى الشكل.

هنا فكرة مدهشة، يمكن لو عولجت بذكاء أن تصنع عملا عظيما، وخصوصا أن فكرة القرين لها مرجعية فى أعمال شهيرة، ولكن «كارما» لا يقنع بالبساطة، وإنما يجعل الاختلاف فى الطبقة والثراء، وفى الدين، وفى الإنسان المقبل من الصعيد، والإنسان ابن المدينة، ثم يتم التلاعب بالشخصيات ووجهات النظر استلهاما فيما يبدو مما فعله يوسف شاهين، أستاذ خالد يوسف، فى فيلمه العظيم «الاختيار»، ليصبح السؤال هو:

هل هناك شخصيتان فعلا هما أدهم الغنى المسلم الثرى، ووطنى المسيحى الصعيدى الفقير؟ أم أنه شخص واحد يحلم بالآخر؟ أم أنه رجل مريض اسمه أدهم يتخيل نفسه مرة كأدهم ومرة كوطنى؟.

لا يكتفى الفيلم بذلك، ولكنه يعدد معنى كلمة «كارما»، ويتحدث عن الفلسفة البوذية، والتعصب الدينى، والوحدة الوطنية، وفساد رجال الأعمال، ويظهر طبيب نفسى متصوف يتحدث عن تطهير الروح وتحريرها، وهناك قصة حب صامتة، وأخرى معلنة، وجريمة قتل فاشلة، وجريمتان ناجحتان، ومأساة فقدان طفلة، ومحاولة تنصير، ومحاولة استتابة، ومحاولة اغتيال فاشلة، وبحث عن كنز، وخيانة زوجية، وأخيرا علاج نفسى للبطل بالحب وحده، ولا نعرف بالضبط أين كان الحب، وسره الباتع من قبل.

يختلط الروحانى بالاجتماعى بالاقتصادى بالنفسى على نحو مشوش للغاية، وتتحول الأحلام بين الغنى والفقير، أو حتى بمنطق اختراع الغنى لشخصية الفقير إلى مهزلة مليئة بالتناقضات، فبينما يبدو وطنى باحثا عن الذهب فى بدايات فصول الحلم، يتحول فجأة عندما يحل محل أدهم إلى مصلح اجتماعى، يقوم بتطهير أموال المليونير من الحرام الذى لحق بها، والعلاقة بين المليونيرات، والمعارك المتبادلة بينهم، قادمة مباشرة من رف المسلسلات العربية، كليشيهات فى كل الاتجاهات.

أما الطبيب النفسى الذى لعب دوره خالد الصاوى، فهو مراقب ومعلق أكثر مما هو معالج، إنه يصف كل موقف وفق رؤيته، ولديه أيضا رؤيته للعلاقة بين الغنى والفقير، وحول مسئولية الغنى عن الفقير أيضا.

فقدت اللعبة تماما جاذبيتها، واضطربت الخيوط والخطوط، وأصبح من الممكن أن تتحدث عن أى قضية تريدها، وحتى بعد التفسير النفسى لأحلام أو كوابيس أدهم، تظهر الطفلة كارما من جديد، وكأنها قرين لا يموت، لعبة روحية سياسية اجتماعية نفسية يمكن لكل خط منها أن يصنع فيلما، فلما اندمجت معا صارت مثل طبق التورلى، فيه شىء من كل شىء، ولكن بدون أن تجد مذاقا واحدا مميزا وواضحا لأى شىء!.

بعد فترة ليست بالقصيرة، نفقد اهتمامنا بأدهم ووطنى معا، تزعجنا ميلودراما مقتحمة، وموسيقى صاخبة كتلك التى كانت تميز ميلودراما أفلام الخمسينيات، وبالإضافة إلى سذاجة حلم الفقير بالغنى، وسذاجة حلم الغنى بالفقير، والحلم الأكثر سذاجة بأن يصلح كل منهما حياة الآخر، فإن اللعبة كلها فردية بحتة، رغم أننا أمام أزمة طبقية عامة، والحل أيضا فردى: غنى لديه مشكلة نفسية، وقد تم حلها، ولعله الآن فى طريقه إلى الحج والتوبة، والحمد لله من قبل ومن بعد!.

يزيد الأمر سوءا أن العناصر الفنية فى أسوأ حالاتها، بالذات عنصر التشخيص، ربما سبب ذلك بالأساس طريقة رسم الشخصيات النمطية على الورق، غادة عبدالرازق مثلا، التى قدمت أحد أفضل أدوارها السينمائية فى فيلم «حرب كرموز»، تبدو هنا تائهة تماما، وماجد المصرى، كمثال آخر، يبدو وكأنه حمل معه إلى الفيلم شخصية مشابهة فى إحدى مسلسلاته التليفزيونية!.

نرشح لك: أحمد فرغلي رضوان يكتب: المنتخب “يسقط” في ملعب السياسة الدولية

الأفضل نسبيا كان عمرو سعد فى شخصية وطنى وليس أدهم، وقد ساعده فى إتقان دور وطنى طريقة أداء استخدمها عمرو بذكاء ونجاح فى مسلسل «يونس ولد فضة»، حتى الطفلة التى لعبت دور كارما، وهى شخصية مهمة للغاية، والممثلة الشابة التى لعبت دور جيلان، كانتا أبعد ما تكونان عن الأداء الجيد، وأظن أننى لمحت وفاء عامر فى دور ما وسط شخصيات الحارة.

تتباين المشاهد طولا وقصرا، وصخبا ورقصا، وخيالا وواقعا، وتبتر مشاهد كثيرة، بالذات فى أول الفيلم، بالقطع الحاد، ولا تتحقق سلاسة الانتقال بين أدهم ووطنى، وكأنهما وجه واحد مشطور كما فى صورة الأفيش.

لم يكن حلما، ولا انشطارا، ولا مرضا، ولا انهيارا، ولكنها ألوان شتى متنافرة، تكدست فلم تستوعبها لوحة واحدة، فشل الفنان فى أن يصنع منها تكوينا متماسكا، فكيف للمتفرج أن يفعل؟!!