تحول حائط الفيس بوك إلى مرآة لكشف الحياة الاجتماعية والسياسية، وأصبح مجال تجلي الإنسان للآخرين ، حيث يرى شباب اليوم أن مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها الفيس بوك هي الأكثر ملائمة لتلبية احتياجاتهم الاتصالية الجديدة مقارنة بالوسائل الإعلامية التقليدية كالصحف والراديو والتليفزيون.
وقد اتخذ الفيس بوك كفضاء عام جديد أشكالاً متعددة ، ففي المرحلة الأولى قبل ثورة يناير كان الفيس بوك مجالا عاما بديلا وموازيا لإعلام السلطه، يحاول كسر هيمنة الدولة واحتكارها للمعلومات، وفي المرحلة الثانية تحول الفيس بوك إلى مشهد ثوري بامتياز إبان ثورة يناير تجلت فيه مناهضة المصريين للنظام ورغبتهم في تقويضه، وحماستهم للتغيير، واستخدم كآلية لحشد الجماهير، وشهد الفيس بوك ما بعد الثورة عملية تسييس شاملة فأصبح الجميع يشارك في النقاش العام ويستقي معلوماته من صفحاته، وطغى الاستخدام السياسي للفيس بوك على الاستخدام الترفيهي والإجتماعي والثقافي.
لكن هل أدى انهيار منظومة الرقابة وسقوط جدار الخوف المرتبط بالحياة السلطوية، وعودة الحياة للسياسة من جديد .. إلى تحول الفيس بوك إلى مجال عام ديمقراطي يحتضن النقاش المتعدد سياسيا والمتنوع فكريا ؟ .
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال ، يجب التأكيد على أن مصطلح (المجال العام) (Public Sphere) للمفكر الألماني “هابرماس” أصبح من أكثر المفاهيم تداولاً في مجال الدراسات الإعلامية في السنوات الأخيرة، حيث يُعد ركيزة من ركائز المجتمعات الديموقراطية حيث يفترض هابرماس أن فكرة التواصل هي ترجمة حقيقية للديمقراطية بوصفها التشكيل الحر للإرادة الشعبية، التي تترجم عبر وسائل التواصل المختلفة التي تقود إلى الحوار من دون إكراه وتسلط وعبر التفاهم المستمر من دون اللجوء إلى العنف، وهو ما يعمل على تكوين مجال عام يعتبره هابرماس مفتاح الديمقراطية الذي يكون دائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة، ويجمع الأفراد في رأي عام يسمح بتبادل عقلاني للآراء ووجهات النظر ويوحدهم في رأي عام يتميز بالإستقلالية والمشاركة، وتؤكد نظرية المجال العام على ضرورة بناء (مجتمع حواري) يوجهه مبدأ قبول الآخر المختلف، فالتواصل وإن كان ينطلق من إستراتيجية تأكيد الذات والتأثير في الآخر إلا أنه يهدف في العمق إلى بناء مايسميه بـ “المجال العام” للعلاقات القائمة على الاختلاف والتسامح .
ولقد لعب الإنترنت اليوم دوراً في توسيع المجال العام أو تحقيقه بالشكل الذي تصوره هابرماس، حيث يمنح الإنترنت امكانية التفاعل دون حواجز حيث يستطيع الناس أن يتواصلوا حول الكرة الأرضية دون وسطاء، وقد أعلن البعض عن هذاالتطور في وسائل الإتصال كنهاية للجغرافيا، حيث أدى انهيار المسافات بين البشر إلى جعل المكان غير ذي موضوع، فالمواطن عبر ابحاره في شبكة الإنترنت، يكتشف كما هائلا من الأفكار كما عبر عنها أصحابها وليس كما نقلها الصحفي الذي غالبا ما يكون مجبرا على تبسيطها أوتشويهها إما لضيق الوقت للنشر أو البث أو لعدم الكفاءة ، وبناءا على ذلك فميزة الانترنت مقارنة مع وسائل الاعلام الأخرى ، هي تمكين كل راغب في التعبير عن أفكاره دونالمرور عن طريق سلطة الصحفي ، فالصحفيون أو من يقف وراءهم في وسائل الإعلام الكلاسيكية يقررون حسب مصالحهم واحتياجاتهم ما الذي يمر ؟ ومن الذي يعبر الحاجز بين الخاص والعام ؟ ، وبفضل الإنترنت فإن الفاعلين أنفسهم سواءا كانوا أشخاصا أو حركات أو أحزابا هم اللذين يقررون ما ينشرونه على الشبكة ، ونتيجة لذلك فالمجال العام يتوسع ويتنوع بشكل فريد وغير مسبوق لم تشهده البيئة الاتصالية من قبل .
والمتأمل للسلوك السياسي اليوم لمستخدمي الفيس بوك سيلاحظ حالة من الاستقطاب الحاد، لا سيما في النقاشات السياسية دون أي تبادل عقلاني للأفكار والحجج التي نادى بها هابرماس، فالخطاب الانفعالي هو المهيمن على التعليقات والمشاركات للمستخدمين، فلم يتحول الفيس بوك إلى وسيط مثالي بين المشاركين تتحاور من خلاله رؤاهم بل إلى (فضاء للتفرقة) تستخدم فيه كل أنواع التشهير والتخوين والشتم في كثير من الأحيان، وهذا لا يعتبر فقط انعكاسا للتشظي والانقسام على الساحة السياسية، بل تعمق هذا التشظي، وأصبحنا بصدد مجموعات منغلقة لا تتحاور مع غيرها، واستخدام لأسماء مستعارة للشتم والتجريح والتشهير، وتبادل مضامين لا مصدر لها ذات طابع فضائحي وتشهيري للنيل من الخصوم السياسيين، وتحولت شبكات التواصل الاجتماعي الى شبكات للتباغض الاجتماعي محملة بشحنات من فائض الكراهية لم نعهده من قبل، ونرى مثلا بعضا ممن ينتمي للتيار الديني لا يتواصلون مع الآخرين ويحذفون من لا يتفق مع توجهاتهم السياسية بدعوى تطهير صفحاتهم من العلمانيين الكفرة أعداء الاسلام ، وعلى الجانب الآخر من ينتمي للتيار المدني يقوم بتطهير صفحته من الظلاميين أعداء الدولة المدنية ، فالكل يريد أن يتواصل مع من يشبهه فقط ، فتتحول الصفحات إلى مجموعات وجيتوهات مغلقة، فالكل في حرب مع الآخر، فتتحول صفحات الفيس بوك إلى ساحات للصراع ومنصات لممارسة العنف اللغوي بشتى صوره ، وكأننا نعيد إنتاج نفس خطاب الإستبداد القديم في وسائل الإعلام التقليدية التابعة للدولة والتي عانينا منها كثيرا ، بنفس الآليات ( آلية الاقصاء ) والتي تتمثل في رفض الرأي الآخر المختلف معي والعمل على حجبه ، و( آلية التبرير) لكل فعل ورأي سياسي يتفق مع اتجاهي الفكري وأيدولوجيتي السياسية حتى وإن افتقر لأبسط قواعد المنطق ، خطاب قديم يعيد إنتاج نفسه ولكن هذه المرة في حلة جديدة وعبر ميديا جديدة ، ونلاحظ أيضا شيوع فكرة التحزب والتعصب والقبلية الالكترونية – إن جاز لنا التعبير- ، ومن أشكال إعادة إنتاج الخطاب القديم أيضا ظهور فاعلين من نوع جديد (أدمن الصفحات) وهو ما يشبه حراس البوابة الإعلامية في وسائل الاعلام التقليدية ، هم حراس البوابة الجدد ، من يحددون من يشارك ومن لا يشارك ويقومون بحذف التعليقات التي لا تتوافق مع أفكارهم وترويج ما يتفق فقط مع اتجاهاتهم ، فَما نشهده إذن هو تغير على مستوى الوسيلة الإتصالية لم يستتبعه تغيير على مستوى ممارسة الخطاب .
..لقد تغنى العديد من الباحثين في علوم الاتصال بأن الانترنت و مواقع التواصل الاجتماعي تحديدا ستجعل العالم أكثر حرية ، فهى كالبيت الجديد لحرية العقل ، وأن المجال العام الجديد على الإنترنت خال تماما من الاستبداد، ومن أي سبب للخوف من ظهور أي تحيز بسبب الجنس أوالعرق أو الدين ، أو لقوة سواء كانت اقتصادية أو عسكرية، فأي فرد في أي مكان في فضاء الإنترنت يستطيع أن يعبر عن أفكاره كما يريد … لكن الواقع يختلف عن المثال ، ففضاء الفيس بوك ليس فضاءا مثاليا وحواريا كما تنبأ هابرماس قد يكون فضاءا خاليا من الإستبداد الخشن القديم … لكن يهيمن عليه استبداد ناعم لا يقل خطورة .
اقرأ أيضًا:
ذكرى رحيل الصوت الأنيق.. محمود سلطان
محمد عبده بدوي: قبل أن تحاسبوا …لمياء
محمد عبده بدوي: اقتلوا …. إسلام بحيري
محمد عبده بدوي: في أهمية أن يتثقف الإعلام
محمد عبده بدوي:رصاصة كريس كايل “الأخيرة”
محمد عبده بدوي: كيف تقرأ الأخبار دون أن تنفجر جمجمتك!