ماذا لو كان بإمكاني أن أعيش حياة مختلفة تمام الاختلاف عن حياتي الآن؟
ربما سيكون هذا السؤال مُبهجًا لدى البعض، ولكنّه مخيفًا بالنسبة إلى آخرين، منهم أنا.
فلنفترض أنني غير راضية عمّا وصلت إليه إلى الآن، وغير راضية عمّا آلت إليه كلّ الأمور.. أقول فلنفترض، ولم أؤكّد عليك المعلومة. اعتبرها مراوغة منّي، أو إحساس كبير بالذنب تجاه النعم المتوفّرة لديّ. كل هذه النعم ولستُ سعيدة؟ هذا جنون! أو ربما هي شخصيّة الكاتب القدريّة، ألا يكون سعيدًا أبدًا.
نرشح لك : محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. عض قلبي
لن أدخل معك في نقاش كهذا، فأنا أؤمن أنه لا توجد سعادة على الإطلاق.. هناك رضا، وهناك عدم رضا، أما السعادة فهي ربما كانت وستظلّ مجرّد أكذوبة تعيننا على المضيّ قدمًا رغم كل شيء مررنا به في الماضي.
دعكَ من كلّ هذا وفكّر معي، ما الذي يجب أن يحدث كي تكون إنسانًا مختلفًا؟
سأكذب عليك، كما يكذب دومًا مدرّبو التنمية البشرية لو أجبت على هذا السؤال وأعطيتك قائمة تنفّذها من أجل تغيير مضمون، ولكنني لن أكذب عليك أبدًا لو حدّثتك عن حالتي أنا؛ فأنا أعرف نفسي جيّدًا، أو هكذا أعتقد.. لن أؤكد عليك هذه المعلومة أيضًا.
كي أحصل على حياة مختلفة، يجب في البداية أن أكون إنسانة مختلفة.
يجب أن أكون أُخرى لا تشبهني.. أن أتصرّف فيفاجئني تصرّفي.. أن أصير مثل كافكا في “المسخ”، أن أستيقظ فأجدني قد تحولت إلى شكل آخر؛ كائن آخر، ليس بالضرورة أن أتحوّل إلى حشرة ضخمة.. يمكنني أن أنظر لنفسي في المرآة لأجد امرأة غيري أمامي، وسيكفي.
يجب أن أستخدم مفردات مختلفة أثناء الحديث، ولن أقول أثناء الكتابة؛ لأنني وقتها لن أكون كاتبة، تذكّر أنني إنسانة أخرى غيري.. ربما سأحب وقتها كرة السلّة، وسأمقت القراءة والكتابة.. سأنظر للورق بنظرة ليست مشبّعة بالقداسة. لن أحرص على شراء أقلامًا جيّدة ولن أصرف كل مدّخراتي في شراء الكتب الأصليّة.. ربما سأكون وقتها بارعة في حلّ مسائل الجبر، التي طالما كنت بليدة فيها.. سيكون لعقلي تلك الخاصيّة العلمية البارعة في الحسابات والأرقام التي تنقصني الآن، حتمًا هذا سيجعل من حياتي حياة ذات ملامح – على الأقل – مختلفة.
كي أكون إنسانة مختلفة، وأعني بمختلفة أنني مختلفة عما أنا عليه الآن، وليس مختلفة عن الناس. أنا أريد أن أكون مثل الناس، ولا أريد أن أكون مختلفة عنهم، فقط كي لا أضطر لسماع انتقاداتهم الدائمة ونظرتهم المندهشة دائمًا من كوني كائن حيّ غريب! دعني أكمل بداية الجملة.. كي أكون إنسانة مختلفة يجب أن أحب الثرثرة، وتمضية الوقت في الكلام، الكلام، الكلام.. لطالما كان الكلام هو كل شيء. يجب أن أكون بارعة جدًا في الكلام.
أكثر ما ندمت عليه في حياتي، ليس ذنوبي، وليس أخطائي، بل ظهوري على شاشة التلفاز لأتكلم، وحضوري ندوة لأتكلم.. أنا لا أحب أن أتكلم! لأنني ببساطة لا أستطيع، ولا أعرف، ولا أرتاح في الكلام، أكره نفسي حينما أنظر لنفسي على الشاشة أتكلم، وأعبّر عن نفسي وعن أعمالي، بطريقة لا توصل المعنى الذي أريده حقًا! لا أريد هذا المعنى، ولكن كلامي جعلك تظن هذا.. العيب ليس عليك، ولكنني بارعة في الكتابة، وفاشلة جدًا في الكلام.
كي أكون إنسانة مختلفة يجب أن أحترف فن الكلام، يجب أيضًا ألا يكون قلبي خفيفًا كريشة طائرة في عاصفة هوائية شرسة.. ما هذا القلب الضعيف؟ يجب حينما أشاهد مشهدًا لطفل يتيم تعذّبه مربية جشعة ألا أغمض عيني، وألا أرفض أن أكمل المشهد.. يجب أن أكمل المشهد للنهاية، ومن ثمّ أضغط على زر المشاركة ليراه جميع أصدقائي، يجب أن أنسى بعدها فورًا، وأضحك على نكتة سمعتها أو طرفة قرأتها.
كي أكون إنسانة مختلفة يجب أن أعدّل ساعتي البيولوجية لتتماشى مع الطبيعة من حولي، يجب أن أنام في المساء وأستيقظ في الصباح، أقوم شاعرة بالنشاط ولدي رغبة عارمة في الخروج لمقابلة بعض الأصدقاء.
يجب أيضًا ألا أدع الزمن والأماكن والظروف أن يسحبوا مني أصدقائي واحدة تلو الأخرى دون أن أتحرّك مدافعة عنهن.. يجب أن أستميت لأستبقي الجميع حولي، وأن أرتاح وسط الجمع، وأن أنفر من الوحدة.
لا أخفي عليك، فأنا دائمًا فضّلت الوحدة والعزلة.. أجد نفسي هناك فأذهب إليها راضية، ولكنني أقول أنني أطمع في حياة مختلفة؛ لذلك يجب عليّ ألا أفعل ما أفعله طوال الوقت.
يجب مثلًا ألا أنفرد مع نفسي لساعات طويلة، بل أهرب منها إلى الناس.. وأنا أقول ذلك أشعر وكأنني أتحدّث عن رواية خيالية أو معجزة لم تتحقق بعد.
لا أخفي عليك أيضًا أنني لن أفعل أي شيء مما سبق، لن أحب كرة السلة ولن أفعل سوى تقديس الأقلام والأوراق ورائحة الكتب، ولن أحب التجمّعات ولن أحب التحدّث أمام الكاميرات، ولن أحب سوى العزلة بين الكتب.. لا أخفي عليك أنا لا أريد أن أكون إنسانة مختلفة، ولا أريد أن أتغيّر إلى إنسانة عمليّة بارعة في حل مسائل الجبر.. أنا لا يهمني الجبر ولا أحب الأرقام.
لماذا كتبت هذا المقال إذن؟ لأنني أردت ذلك، وشعرت بذلك، وفكّرت في ذلك.