بعد 25 عامًا من الفن والسياسة، رحلت الفنانة مي سكاف اليوم، عن عمر ناهز 49 عامًا، بعد صراع طويل من أجل الحرية والديمقراطية؛ صراعٌ بدأ بآمال الثورة والتغيير وانتهى بالموت قبل إدراك الغاية، فلا كفّت يومًا عن السعي لمرادها ولا أمهلها القَدَرُ عمرًا حتى تناله.
ولدت في دمشق عام 1969، وعاشت وتربَّت فيها. تخرجت من جامعة دمشق بعد دراسة الأدب الفرنسي، لكن قبل ذلك كان قد استهواها الفن والتمثيل منذ أيام الدراسة، فشرعت في تقديم مسرحيات في المركز الثقافي الفرنسي، وبعدها انتقلت للسينما والتلفزيون، وبدأت مسيرتها الفنية الحقيقية منذ مطلع التسعينات، ثم انضمت لنقابة الفنانين السوريين عام 2001.
نرشح لك : جمال سليمان يرثي مي سكاف
أكثر من 25 عامًا من العمل الفني قدمت خلالها 36 مسلسلًا والعديد من الأفلام والمسرحيات، كانت فيهم دومًا ذات حضورٍ خاصٍ، ليس فقط في الأداء ولكن على صعيد المهنة نفسها، ففي عام 2004 حاولت إنقاذ المسرح السوري، الذي كان قد أصابه الإهمال لسنوات بسبب إعراض أغلب المثقفين والفنانين عنه، فأسست معهد تياترو لفنون الأداء المسرحي واستمر لمدة 12 عامًا، كان خلالها حاضنا لأمزجة فنية مختلفة وملجأ لكثير من التجارب الشبابية السورية، لأن الشرط الأساسي لأية فعالية يستقطبها كان الجودة الفنية فقط.
لو تحدثنا عن مي سكاف كممثلة، فهي موهوبة وتلقائية في أدائها، أغلب أدوارها تظهر فيها بدون مساحيق تجميل، فتبدو دومًا على طبيعتها، ولو شئنا وطبقنا الصفة على أحاديثها ولقاءاتها التلفزيونية، لوجدنا فنانة مثقفة تتحدث بمنطق العقل والحكمة لا بمنطق الجسد والشكل، لذا لا عجب في أن أغلب وأفضل أدوارها، الأعمال التاريخية والمأخوذة عن قصص وروايات عالمية.
ولأنها ترى أن الفن لا يبتعد عن السياسة، وأن للفنان دورًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وتربويًا، دخلت ساحة السياسة منذ انطلاق الثورة السورية، فكانت من أوائل المشاركات في الحراك الثوري منذ اليوم الأول، وانحازت للثوار، فكانت من أوائل الفنانين الموقعين على بيان فكّ الحصار عن محافظة درعا أو ما عرف بـ”بيان الحليب”، فبدأت ملاحقتها من قبل النظام السوري حتى تم اعتقالها في يوليو 2011، إثر مشاركتها في ما عُرِفَ بـ”مظاهرة المثقفين” بدمشق، واستمر احتجازها لمدة ثلاثة أيام.
وبعد ذلك بأقل من عام، تم اعتقالها بتهمة التحريض على القتل، إلا أنها خرجت، ثم اعتقلت مرة ثالثة في مايو 2013، ثمّ أفرج عنها وغادرت سوريا هربًا مع ابنها، متوجهة إلى الأردن، لتنتقل بعدها إلى الإقامة بفرنسا في العام 2013 حتى وفاتها.
مي لم تكن ترغب في ترك سوريا، ولم تكف عن دعم الثورة والثوار حتى من الخارج، لكنها دفعت الثمن كباقي السوريين واعتقلت وهُجّرت ومع ذلك لم تتراجع. قالت إنها خرجت مجبرة لكنها “كانت أجبن من أن تنتظر الموت في سوريا” حسبما وصفت نفسها في أحد اللقاءات، قائلةً: “مصيري كان الموت كما قالوا لي بالسجن”.
مي التي هتف باسمها آلاف الثوار في ساحة العاصي في حماه، ولقبت بـ”أيقونة الثورة السورية”، كان آخر ما كتبته عبر حسابها على “فيس بوك” أنها لن تفقد الأمل في سوريا العظيمة، مؤمنةً بسيرورة التاريخ وبأن هذه الثورة التي لا تزال يتيمة عظمتها بانتصارها، قائلةً: “هذه الثورة ثورتي حتى أموت.. سأظل أدافع عن حلمي في أن أرى سوريا العظيمة”.
ورحلت مي اليوم فجأة قبل أن يتحقق حلم الانتصار، تاركةً سوريا كما وصفتها: “طفل بلا رأس، مسجد بلا مئذنة، مشفى بلا طبيب، مريض بلا دواء، شتاء بلا موقد، ليل بلا كهرباء… هنا سوريا.. حيث كل شيء مبتور”.