أحياناً يعتقد الصحفي أنه بلغ من قدرات التعبير والتمكن من اللغة ما يسمح له بوصف ما يريد ومن يريد دون أدنى مجهود يُذكر.. هذا الكلام قد ينطبق أحياناً على بعض الشخوص التي أثرت بالفعل في حياتنا وواقعنا، لكن ماذا عن شخصية مثل شخصية الراحل يوسف شاهين.. قد تخوننا الكلمات أحياناً وتعجز الجُمل كثيراً، ولا نجد تعبيراً أفضل من مجرد ذكر اسمه.. يوسف شاهين وكفى، ومحاولة التعرف على الجانب الإنساني لقامة فنية بحجمه.
لذا تواصل إعلام دوت أورج في الذكرى العاشرة لرحيل “شاهين” بأحد الشباب الذي أتته الفرصة ليعمل مع المخرج الكبير كمساعد مخرج في ٣ من أفلامه، وهو المخرج أمير رمسيس، والذي تحدث عن علاقته بيوسف شاهين ومساندته ودعمه له وجوانب أخرى في حياته من خلال التصريحات التالية:
نرشح لك: 21 تصريحا لـ منال الصيفي.. أبرزها عن علاقتها القوية بيوسف شاهين
1- كانت الصدفة هي الطريق للعمل كمساعد مخرج للراحل يوسف شاهين، وقت أن كانت الشركة المنتجة “أفلام مصر العالمية” المملوكة لشاهين في مرحلة التحضير لفيلم “سكوت هنصور” منشغلة في نفس الوقت بتصوير عمل أخر، لذلك كان هناك احتياج لمساعد مخرج جديد، وقتها كنت لا زلت في السنة النهائية من دراستي في المعهد العالي للسينما وأعمل على مشروع تخرجي، ودائماً ما كنت أول دفعتي في سنوات الدراسة وأجيد اللغة الفرنسية، كل هذا ساعد في قبولي كمساعد مخرج له بالإضافة أنني كنت قد نفذت مجموعة من الأفلام القصيرة التي تابعها الناس وأصبح اسمي يتردد في وسط الصناعة.
2- فوجئت باتصال تليفوني من الشركة تسألني عن رغبتي في العمل مع يوسف شاهين وطبعاً كان هذا السؤال جنوني بالنسبة لي حتى أذكر أنني أخذت الطريق من أكاديمية الفنون بالهرم للمكتب في شارع شامبليون بوسط البلد “طيارة”.
3- تعود مقابلتي ليوسف شاهين وجهاً لوجه لأول مرة في التسعينات تحديداً عام ٩٤ -كنت في الصف الأول الثانوي-وقت أزمة فيلمه “المهاجر”، وكنت وقتها حاسماً قراري بالعمل في السينما التي عشقتها من خلال أفلام يوسف شاهين.
4- شغل تفكيري كيف أن هذا المخرج الذي أحبه يتعرض فيلمه للمنع وللقضاء؟ فبدأت بتجميع توقيعات من المحيطين بي سواء الأصدقاء أو زملاء المدرسة لمساندة الفيلم ونقوم بإرسال هذه الأوراق بالبريد لمقر شركته “أفلام مصر العالمية”.
5- بعد فوزه في القضية توجهت أنا وزميل لي لمقر الشركة بوسط البلد لإهدائه صُحبة من الورد قمنا بتجميع ثمنه من زملائنا في المدرسة، وكان قرارنا أن نترك له الورد وبطاقة كتبنا عليها إهداء له، ثم نغادر المكان، لكن الذي حدث ولم نكن نتخيله أن دخل في نفس التوقيت المخرج خالد يوسف ولما سأل عما نفعله شرحنا له سبب مجيئنا فما كان منه إلا أن أخذنا من أيدينا وأدخلنا ليوسف شاهين في مكتبه. كان سعيداً جداً بالورد ولم أنطق أنا بكلمة واحدة فقد عقدت الدهشة لساني.
المخرج أمير رمسيس يحكي عن أبرز المواقف التي جمعته بالمخرج الراحل "يوسف شاهين"
المخرج أمير رمسيس يحكي عن أبرز المواقف التي جمعته بالمخرج الراحل "يوسف شاهين"تصوير وحوار: أمنية الغنّام مونتاج: نورا مجدي #صوت_الميديا
Posted by إعلام دوت أورج – e3lam.org on Thursday, July 26, 2018
6- التقيت به بعد ذلك بسنوات عندما كنت استلم نسخة من سيناريو “سكوت هنصور” ولكنه لم يتذكر لقاءنا الأول وكان هو كما المعتاد والمقدس عنده يغادر في الثانية ظهراً للغذاء فانتظرت بعد الظهر للقائه وكان لزاماً العمل على السيناريو من داخل المكتب في أول أسبوعين.. وأذكر جيداً عند لقائي به، عندما عرفوه علي قال “هو ده أمير اللي بتكلموني عليه من أسبوعين، وهو هيستحمل الشغل معانا؟” (نظراً للنحافة الشديدة التي كنت عليها). ظل ذلك محل دعابة بيننا حتى جاء يوم سألته مازحا “ها طلعت بستحمل؟” فرد علي “بتستحمل.. بتستحمل اسكوت بقا”.
7- أعتقد أن التفاني كصفة كانت هامة جداً له في اختياره لمساعديه، فصحيح أن إلمامي باللغة الفرنسية ساعد كثيراً على التقريب بيننا خاصة وهو الذي يكتب السيناريو التنفيذي للفيلم بنفسه باللغة الفرنسية وأقوم بترجمته للبقية، لكن علاقتنا توطدت أكثر وأكثر عندما جاء في أحد الأيام إلى المكتب لمتابعة نسخة فيلم في المونتاج وكانت الساعة ١١ مساء ووجدني ما زلت أعمل، هنا قدر في صفة التفاني والإخلاص في العمل وتغيرت شكل العلاقة من اليوم التالي من شخص كان يأتي للمكتب وينتظر إلى أن يستدعيه شاهين وسؤاله عن بعض الأمور إلى شخص أصبح شاهين يطلبه بنفسه صباحا للجلوس معه وقراءة الصحف والدردشة قبل بدء ساعات العمل التي كانت تبدأ في تمام العاشرة صباحاً.
نرشح لك: في ذكراه العاشرة.. 18 صورة من جنازة يوسف شاهين
8- كان شاهين معتاداً على القلق وقت الفجر في الساعة ٥ صباحاً ويعمل في منزله حتى ٧.٣٠ تقريباً يأخذ بعدها حوالي ساعة راحة ثم يستعد للقدوم للمكتب تحديداً في العاشرة إلا ربع، ومن ١٠ حتى ٢ ظهراً يكون الاجتماع مع فريق العمل ككل من إنتاج، وديكور، وملابس، وإخراج… ثم يغادر لمنزله ويعود مرة أخرى في ٦ مساء لعقد الجلسات المصغرة مع كل مجموعة على حدة.
9- عند يوسف شاهين لا يقل الإعداد لأي فيلم عن ٨ شهور قبل الدخول في مرحلة التصوير التي قد تمتد حسب العمل فمثلاً “سكوت هنصور” بدأنا تصويره في سبتمبر ٢٠٠٠ وانتهينا منه في ٢٢ ديسمبر. وفيلم “اسكندرية نيويورك” بدأناه في يناير ٢٠٠٢ وانتهينا منه في نوڤمبر من نفس العام.
كان من الصعب أن يقبل تعديل مقدم من أحد لكنه كان يرحب بأي اقتراح من شأنه أن يتوافق ويتقاطع مع رؤيته الشخصية ويشعر تجاهه بالأريحية لقبوله حول المشهد وكان يتعامل مع المخرجين المساعدين المقربين على أنهم مبتكرين ومبدعين وليس مجرد مساعد مخرج لأنه كان يرى أن مساعد المخرج هو في الحقيقة مشروع مخرج في المستقبل.
10- شاع دائماً عن شاهين أنه ديكتاتور في عمله، أنا لم أكن أراه كذلك بل هو شخص صاحب رؤية واضحة ويعي تماماً الشكل الذي يريد خروج أعماله عليه وكان يتقبل أي اقتراح في إطار شكل السينما التي يحبها ويقدمها للجمهور.
11- من المواقف التي لا أنساها أبداً أثناء المرحلة النهائية لما بعد التصوير لفيلم اسكندرية نيويورك ونظراً للحالة الصحية وقتها لشاهين تابعت هذه المرحلة في فرنسا مدة ٧ أشهر وكان شاهين يأتي لمتابعة ما يتم بما ينتصر لرؤيته.. ففي المشهد الأخير للفيلم والفنان محمود حميدة يسير في شوارع نيويورك وصوت الفنان علي الحجار يغني أغنية الفيلم، كان وقتها المونتير “دومينيك” الذي يتعامل معه شاهين منذ فيلم “وداعاً بونابرت” اقترحت عليه أن نضيف المؤثرات الصوتية المشهورة عن شوارع نيويورك مثل سارينة عربات الشرطة، صخب السيارات فما المانع أن نضيف ذلك للمشهد، فرد علي أنها فكرة لطيفة لكن ممكن أن نستمتع بها سوياً أنا وأنت لكن إذا وجدت الموسيقى فالأولوية لها.. وعندما استمع شاهين لدمج صوت المؤثرات المصاحبة للمشهد والتي تكاد تُخْفِي الموسيقى، التفت لدومينيك الذي التفت بدوره لي، وهنا تنبه شاهين إلى أن الدمج كان اقتراحاً منّي فقال “حلو هنخليه كده”. عكس ما توقعته من ردة فعل.
12- من الأفكار المغلوطة عنه أنه كان قاسيا مع الممثلين. بل على العكس كان “جينتل مان” معهم صحيح كان أحياناً يلجأ لبعض ألفاظ السباب على سبيل الهزار لكنها مع الوقت تصبح نوعاً من أنواع التدليل، وإذا شعر أن الشخص الذي أمامه تأذى من ذلك يعتذر له فوراً وأمام الجميع فكان يكره كثيراً أن يُشعر من أمامه بالانكسار، وكانت أشهر تعبيراته عموماً في موقع التصوير… “يا حمار”.
13- شاهين كان يحب وجوه كل الممثلين الذين عملوا معه وكان متفانياً في تصويرها، وكانت الدعابة المشهورة في ذلك “جهّز اللمبة والعدسة الخاصة close up “ بمعنى أنه كان يهتم بتصوير ملامح وتعبيرات الوجه وإضاءته ودائماً ما كان يطلب من مدير التصوير أن يهتم باختيار تلك العدسة التى تُنير عيون الممثل لدرجة اللمعان.
14- كانت نصيحته للممثلين أنهم مهما بلغوا من الشهرة والنجومية لابد وأن يتعاملوا مع جميع العاملين في التصوير بلطف لأن كل ذلك ينعكس على ملامحهم وشكلهم، فتخيل مثلاً من يحمل وحدة الإضاءة لك بحب سيركز أنه يضعها في مكانها الصحيح لأجلك لتظهر في أجمل صورة ليس كالذي يكره حملها لك وهذا ينطبق على التعامل مع مهندس الصوت والإضاءة….الخ… فحبك لمن حولك يجعلهم يتفانوا في أن يظهروك جميلاً فلا تتعالى على أحد.
15- كان يحرص دائماً على أن يكون الممثل في أحسن حالاته المزاجية ولم يكن يقف أثناء مشاهد التمثيل بجوار المونيتور بل بجوار الكاميرا لتلتقي عينه بعين الممثل ويتابعه ويرى مثلاً هل الدموع في عينه حقيقية أم لا. وكأنه حريص على أن يغلف الممثل بورق سوليفان.
16- من مميزات شاهين أنه عندما يجدك إنسان “ناصح” على حد تعبيره فإنه يهتم بتوجيهك وتعليمك وترشيح كتب معينة لك لقراءتها، بل ويسمح أن تتطور العلاقة من مجرد مساعد مخرج لأبعد من ذلك وهذا ما حدث معي في زياراتي لمنزله والاستماع للموسيقى سوياً خاصة مع حبنا للكلاسيك منها وأغاني الخمسينات والستينات وموسيقى الجاز الأمريكية.
17- كان مهووساً بالبحر والمراكب حتى أن تصميم غرفة الاستقبال في مكتبه أشبه بالسفينة وكل ما له علاقة بها كالحبال المشدودة والأجزاء الخشبية التي تتدلى من سقفها والهلب المستخدم لإرسائها…
18- من أبرز نصائحه لي على المستوى المهني هي أن أستمتع قدر الإمكان بما أقوم به فإذا أخذت على سبيل المثال لقطة حلوة أثناء التصوير أو مشهد جميل أو أن أداء الممثل كان متقناً كان يقول لي “إهدأ” واستمتع بما حققته ثم انتقل للمشهد الذي يليه، وهذا مثل فارقاً كبيراً لي بعد ذلك. فأمير رمسيس في أخر فيلم له قبل العمل مع يوسف شاهين غير أمير رمسيس في أول فيلم له بعد ذلك.
19- ما يقال عن عدم حصول فيلم الناصر صلاح الدين على جائزة الأوسكار بسبب ارتداء أحداً ما من المجاميع المشاركة لساعة يد عبارة عن أسطورة شهيرة، ولا أساس لهذا الكلام؛ أولا الأوسكار ليس بمهرجان وبالتالي ليس له لجنة تحكيم من أساسه بل جوائزه قائمة على تصويت أعضاء جمعية الفيلم، ثانياً الناصر صلاح الدين لم يُرشح من الأساس للأوسكار أو يذهب لمهرجان فينس أو برلين.
20- آخر مرة رأيت فيها يوسف شاهين كان في عيد ميلاده السابق على رحيله وتحديداً في ٢٥ يناير ٢٠٠٨، وتبادلنا الأخبار وتحدثنا عن مشاريع أفلامي التي أقوم بالإعداد لها، وفترة دخوله الغيبوبة كنت في لبنان وأتيت في اليوم التالي لدخوله فيها.