هالة منير بدير
تأسرني على الدوام الأعمال الدرامية التاريخية، وخاصة ما يتناول منها الحروب والثورات وما يتخللها من مواقف إنسانية، ولكن أن تقرأ عملاً أدبياً يضعك في خضم تلك الأحداث وكأنك كنت معاصراً لها بلحمك ودمك؛ يخفق قلبك مع قلوب أبطاله في أشد الصعاب، وتتنفس الصعداء معهم بوصولهم لِبَر الأمان، وتدمع عيناك لحزنهم وقهرهم، فأنت تقرأ الآن رواية لهشام الخشن، إنها رواية “حدث في برلين”..
نرشح لك : 17 تصريحا لـ هشام الخشن.. أبرزها عن كواليس كتابته لـ “حدث في برلين”
تبدأ الرواية بمشهد مزادٍ علني لبيع آلة كمان أثرية أُطلِق عليها “ستراديفاري”، نسبة إلى صانعها الإيطالي “أنطونيو ستراديفاري” أكثر صناع الآلات الموسيقية احترافاً في أوائل القرن الثامن عشر، والتي يصل ثمنها الآن إلى ما يزيد عن خمسة عشر مليون دولار أمريكي، يلعب هذا الكمان دوراً في التقاء مصائر خمس سيدات بعد عقود طويلة، بعدما تفرَّقت وتشتَّت مصائرهن، عقب سقوط الحكم النازي لألمانيا، لتتداخل الأحداث في أزمنة عبر الأجيال في سلسلة من الهروب والخوف من المجهول تمتد على بقاع خمس دول في ثلاث قارات.
تناولت الرواية ثلاثة محاور:
– بشاعة الاضطهاد الواقع على يهود أوروبا في ظل حكم الحزب النازي لألمانيا، بداية بتخريب بيوتهم ومحلاتهم، وممارسة ألوان العنصرية ضدهم كإرغامهم على ارتداء نجمة على أذرعهم لتمميزهم عن غير اليهود، ونقلهم رغماً عنهم وحشدهم وعزلهم في “جيتوهات/ أماكن للعزل” حتى وصل الأمر لاعتقالهم وتعذيبهم في معسكرات الاعتقال والإبادة في غرف الإعدام بالغاز، هذا كله ضمن خطة منظمة تدعى “الحل النهائي” للخلاص من اليهود.
– اشتعال نشاط صيادي النازيين بتتبع كل من كان متورطاً في قمع وقتل اليهود وتقديمه للمحاكمة بتهم جرائم الحرب، وذلك بعد سقوط “الرايخ الثالث/ ألمانيا العظمى” وانتصار الحلفاء على هتلر.
– سقوط برلين وانقسامها إلى شرقية وغربية، وتضاد سياسات حكامها بين شطري المدينة وفظاعة الصراعات بينهما، والتضييق على سكانها من الجانبين.
مزج هشام الخشن في روايته بعض الشخصيات والأحداث الحقيقية، “ليلة الكريستال” أو “ليلة الزجاج المكسور” يوم التاسع والعاشر من نوفمبر 1938 (بداية اندلاع الحملة الممنهجة ضد اليهود) ، “أدولف أيخمان” أحد أبرز القادة النازيين ورئيس جهاز البوليس السري “جيستابو” والمسؤول المباشر عن معسكرات اعتقال وإبادة اليهود، وكيف تم تتبعه واختطافه من الأرجنيتن، ومحاكمته وإعدامه في إسرائيل.
نرشح لك : “حدث في برلين”.. كيف أعاد هشام الخشن قراءة التاريخ بشكل مغاير؟
خلقت قراءة الرواية بلسان كل بطلة من بطلاتها نوعاً من التعاطف الشديد، فحديث الشخصية بمرارة عن نفسها ومع نفسها أثار الشجن، واستثار مشاعر الشفقة تجاه من قد يكونون جلادين في حقبةٍ ما، إذ ناقش على لسان إحدى بطلاته؛ مدى اعتبار الالتزام بالعمل وانصياع الجندي لأوامر قادته الدمويين مشاركة في الخطأ أو الجريمة، وكيف يدفع الشخص الثمن إذا مال نحو ما يظنه عدلاً.
جاءت لغة السرد بصيغة المتكلم سلسة انسيابية بعيدة عن التكرار والإسهاب، تتضافر الشخصيات فيما بينها في نسيج متقن غير ممل ولا مخل بتواتر الأحداث، قد يجد القارىء بعض الارتباك بسبب تعدد الأصوات والقفز بين أحداث الستينات والثمانينات والتسعينات بصورة غير متعاقبة، ولكن لتلافي ذلك لابد أن يستمر القارىء في تناول صفحات الرواية بانتظام وعلى فترات زمنية قصيرة ومتقاربة، وهذا بالفعل ما تفعله الرواية بقارئها، فأحداث الرواية المثيرة والمشوقة تحمس القارىء للاستمرار حتى نهايتها.
برع الخشن في تجسيد مشاعر الغربة وإنهاك الهروب والمطاردات، وافتقار الأنثى لأنوثتها باستمرار التعقب والاضطهاد والمصير الغامض، بشاعة هجر الأحبة وفقد الأعزاء بالموت، الانكسار بعد البطولات، صراع المشاعر الإنسانية بين أفضلية إكمال مسيرة الحياة حتى لو كانت تخفي كذبة كبيرة، أو اختيار تعرية الحقيقة وكشف المستور!
الرواية التي صدرت حديثاً عن الدار اللبنانية إذا ما قُدِّرَ لها الانتشار ستكون مرجعاً إنسانياً في ثنائية النازيين والهلوكوست، تكشف الوجه الآخر أو فلنقل الوجه الخفي لمن قد يحمل وسم “النازي”، ولمن يدَّعي بحق أوبدون وجه حق أنه ضحية من ضحاياه، وكيف أن كل طرف قد يكون ضحية للآخر في حقبة مختلفة من الزمن، “ضحايا تتحين فرصة أن يصبحوا جلادين” ولكن “البشرية فيما يبدو ترفض حفظ الدروس” ..
عبارات راقتني:
“البشرية معذبة بزعمائها وشطحاتهم؛ يَجْرُون بالشعوب يميناً أو يساراً، أو ينزلقون بهم لدروك سفلى لتحقيق ذاتياتهم، ولإشباع عواطف شبوا عليها حباً أو كرهاً”..
“أظن أن ما يقومون به من جنون ليس إلا مناورة سياسية جديدة..ورقة تفاوض سيحصلون بها على مكاسب ثم تعود الأمور لما كانت عليه.. هذا ما يحترفه الساسة: يبدأون أفعالاً يعرف الجميع أنها ضرب من الجنون، ثم ما يلبثون أن يعودوا عنها بعد لمِّ غلة انتصارهم”..
“سيؤرقنا الأنين بعض الوقت ثم سيخفت سريعاً حين تحيل ذاكرتنا أولئك الضحايا لأرقام مسلسلة في مدونة الزمن”..
“التاريخ صناعة حكائه”..