هذه المقالة قامت على دردشة فيسبوكية مع صحفي مصري شاب اسمه إسلام وهبان، يمتلك فضولًا معرفيًا كبيرًا ويختزن طاقة مذهلة تجعله قادرًا على الاستمرار في الحوار لساعات، كمن ينبش بعصاه بين الرمال، ليس بحثًا عن شيء بعينه تنطفئ رغبته حين يعثر به أو تنطفئ كذلك حين لا يعثر به، إنما باحثًا عن شيء سوف يعرفه حين يجده، ولا مانع لديه من الإفادة من كل معثورات رحلة البحث في دعم مسيرته التي لن تنتهي، لأن رحلة الفضول للمعرفة لا نهاية لها، إنما محطات ومحاور والتفافات وبناء دائم.
أهدي هذه المقالة لإسلام، وأنتظر أن يصعد اسمه قريبًا في عالم الصحافة، أو الرسم…، وربما في عوالم إبداع موازية واثق أنه يستكشفها بداخله هذه الأيام بالدأب نفسه الذي ظل متقدًا طوال ساعات من النقاش على صفحة التواصل الاجتماعي.
كانت البداية حين وضعني إسلام في قلب واحدة من قناعاتي المتعلقة بممارسة النقد، بانتقاده الحاد لمن “يطلقون على أنفسهم وصف نقاد بينما هم يمارسون النقد (على هواهم) من دون (حجج وبراهين)”. فجاوبته: في اعتقادي أن النقد -في الأساس- لابد وأن يكون تمامًا –كما تفضلت بوصفه- “هوى” و”انطباع”، ولكن بشرط أن يكون منضبطًا ومعبّرًا، لأن كل نقد-في رأيي- يخلو من “انطباع” و”هوى” هو نقد ميكانيكي خال من الروح.
وبعد أخذ وعطاء مثمرين اتفقنا على أهمية بقاء “الهوى” في النقد، على أن يكون الناقد مستندًا في هواه إلى معايير يعرضها بشكل يسمح بمناقشتها قبولًا أو رفضًا، وهنا نتخلص من “الميكانيكية” وتنفتح الاحتمالات على إضافات وتطورات.
نشترك –إسلام وأنا- في الرغبة الدائمة لمناقشة البديهيات، أو الأمور التي يطرحها الناس باعتبارها بديهيات، كأن تنفلت من أحدهم خلال المناقشة عبارة مثل: “على المثقف أن يفعل كذا وكذا”، في مثل هذه الحالات فإن فضولي يتجه أول ما يتجه إلى سؤال زميل النقاش عن مفهومه أو تعريفه للكلمة المفتاحية في عبارته المغلقة التي تُلزم المثقف بفعل ما: من هو المثقف؟.
نرشح لك: وليد علاء الدين: “مسرح مصر” لا يقل خطورة عن المخدرات
في حوارنا لم يمرر إسلام كلمة المثقف من دون أن يداعبها بفضوله لمعرفة مفهومي لها، فقلت: إن المثقف في أبسط تعريفاته -التي أحبها- هو الشخص القادر على “التحليل. أما “التحليل” في هذه العبارة فهو محاولة تفسير القناعة أو الرأي أو الرؤية، بمعنى بيان الطريقة التي بُنيت بها، سواء تحليل رؤيته هو أو الاجتهاد في تحليل رؤى الآخرين التي يطرحونها مغلقة. والتحليل هو أول خطوة –في الواقع هو خطوة لا غنى عنها- لكل مناقشة، ومعه فقط يتحقق التطور وتزداد المعرفة.
ولأن مُحاوري يترك لفضوله الفرصة كاملة، فلم يغلق أمامي باب استعراض المثال، بل دعاني للشرح؛ فقلت: إن الفارق بين المثقفف –بالمعنى الذي طرحته- وغير المثقف، هو كالفارق بين اثنين دخلا بيتًا واحدًا، وشعرا بالراحة والطمأنينة فيه، فقال الأول: “الله، أنا مرتاح”، وقال الآخر: “الله أنا مرتاح”، ثم بدأ في تحليل شعوره ورصد عناصر تكونه مثل: مرتاح لأن هذا البيت مبني في اتجاهات الجغرافيا الطبيعية، مرتاح لأن الخامات والألوان مستمدة من الطبيعة المحيطة، ومرتاح لأن الضوء يأتي بشكل مريح من مصادره التقليدية ويتسرب بشكل غير مباشر… إلخ.
كل ما قام به المثقف أنه اجتهد في حدود معارفه في “تحليل” ووصف الانطباع أو الإحساس، أو بعبارة أخرى اجتهد في تسخير معلوماته في وصف ما يمكن أن نسميه “الواقع”، هذا الوصف، هذا التحليل، هذا الجهد هو الوسيلة الأساسية لكل تطور علمي أو تجلي إبداعي.
وكعادته قفز إسلام بفضوله: وهل هذا أمر فطري أم أنه نتيجة للدراسة؟
قلت: لا أفهم كلمة “فطري”، ولكني أفضل كلمة “وعي”، الوعي قضية فلسفية شديدة الأهمية، وهبها فلاسفة كثيرون حياتهم كاملة، ويعتبره بعضهم –اي الوعي- الفارق الرئيس بين الإنسان وبقية الكائنات الحية.
في رأيي إن الوعي يقابل الغريزة، وبالعودة للمثال الذي استخدمناه، فإن معظم الناس –بالغريزة- سوف يشعرون بالراحة في البيت المذكور، ولكن صاحب الوعي وحده هو من ينتبه فيسأل نفسه: لماذا أشعر بالراحة هنا، ولا أشعر بها هناك؟ حين ينبثق هذا السؤال “الواعي” تبدأ الرحلة، وهي رحلة “الفضول، فالفضول –في رأيي- هو قائد كل تطور.
وهنا أعود محاولًا تقديم إجابة لسؤالك عن الفطرة والتعلم؛ فالتعلم ابن الفضول، وكل تعلم غير تابع لفضول لا يُعوّل عليه- مستعيرًا صياغة ابن عربي. والسؤال: هل كل الناس بإمكانهم أن يتعلموا كل الأشياء؟ المفروض أن تكون الإجابة نعم. والبلاغة الشعبية تؤيد ذلك حين تقول “اللي فيه عينين وراس يعمل اللي بيعملوه الناس”، وفي رأيي أن هذه حقيقة. لن نتجاهل ما أسماه العلماء بالفروق الفردية، وما يتحدث عنه العلم من “استعداد”، إلا أنني أجزم بأن الاثنين -بكل أطياف تعريفاتهم العلمية- لن يكونا في النهاية أكثر من خادمين للفضول، إذا كان فضولك لتعلم شيء قائدًا لك فتأكد أنك سوف تتعلمه، وإذا استمر فضولك فلا شك في أنك سوف تصبح مميزًا في هذا “الشيء”.
نرشح لك: عمر طاهر.. أن تعيش لتكتب
دعنا نتعامل مع مصطلح “الفروق الفردية” بقليل مما ندعو إليه من تحليل؛ أظنه مصطلحًا خادعًا، فالفروق الفردية ليست صفات مادية أو بمنطق الكمبيوتر “هارد وير”، كأن يكون الإنسان طويلًا أو قصيرًا، إنها أمر أعقد بكثير من هذا المستوى، ألست ترى رجلًا قصير القامة يتحول إلى لاعب سلة مذهل؟ وآخر طويلًا ولكنه مثير للخيبة في هذه اللعبة؟ ليس كل طويل إذن لاعب سلة، إذن الفروق مواصفات غير مادية، “سوفت وير”، في مقابل الـ”هارد وير”؛ هي ”شيء” عندما يعمل يجعل القصير طويلًا بإنجازه، وعندما يخمد يجعل الطويل قصيرًا بخنوعه.
لذلك أرى أننا –أقصد المنتمين إلى ثقافتنا- مظلومون للغاية في تربيتهم، لم نمتلك الفرصة لاستكشاف أنفسنا إلا بعد ضياع سنين طويلة في وهم، أعرفه الآن بوضوح: “فساد المفاهيم”؛ عوائقنا معظمها كانت “عوائق وعي”، العقبات التي بدت لنا جبالًا شاهقة لا يمكن تجاوزها لم تكن سوى قناعات مزيفة أورثنا إياها السابقون أصابت طموحنا وقدراتنا بالشلل.
خذ –مثلًا؛ حين تثير فضولَك هوايةٌ ما في لحظة من لحظات عمرك المبكرة –لاحظ أن الهواية مشتقة من الهوى- مثل الكتابة أو الرسم أو العزف على آلة موسيقية أو الرقص، فإن أول ما يواجهك به المجتمع المحيط: أنت لست موهوبًا! كلمة قاتلة لا معنى لها، لا يوجد شيء اسمه موهبة، هناك شيء اسمه “رغبة” وشيء اسمه “مقدرة”، عندما تشير الرغبة إلى شيء فعلينا اختبار “المقدرة”، ومع الاختبار الذي يعني الممارسة والانغماس، يبرز العنصر الثالث وهو الأهم، المايسترو والقائد والحاكم بأمره، إنه “الفضول”، والبعض يحب أن يسميه “الشغف”، هو الحاكم بأمره لأنه فقط من سيجعلك إما تستمر مستمتعًا فتعمل وتتعلم وتتعب وتدرس وتسأل وتتدرب، أو أنه سوف يقول لك: كفى، ليست هذه منطقتك. والموهوب ببساطة هو من يقوده فضوله نحو حقل فيهب حياته لاختبار مقدرته فيه إلى آخر نفس.
ولأنه فضولي، يقفز إسلام بسؤاله: هل يمكن لفضولى إذن أن يجعلني موهوبًا فى الرسم؟
جاوبته: لا، سؤالك هكذا مغلق، وينقصه إعادة ترتيب العناصر: يمكن للفضول أن يقودك نحو محاولة الرسم، ولكنك بعد قليل من التجريب لن ترسم، وسوف تعيش من دون أن ترسم، ولن تشعر بالحزن لأنك لا ترسم. هذه هي رسالتك، وعليك أن تقرأها سريعًا.
الحالة التي نتحدث عنها هي أن تكون رغبتك في الرسم جارفة، لا تشعر بوجودك من دون أن تكون رسامًا، لا تتوقف أبدًا عن محاولات الرسم، فضولك يقودك إلى كل ما له علاقة بذلك، هنا يأتي صاحب المفهوم الفاسد، ويُخضعك لمفهومه ويضع الحجر في طريقك، ويقول لك ببساطة: لكنك غير موهوب. وكأنه يملك الصكوك من واهبها!
هنا لا تصدقه، أعرض عن كل من يتحدث بهذا المنطق، لأن الرسم في هذه الحالة هو وسيلة التواصل المتناسبة مع تكوينك، ربما هو وسيلة تواصلك الوحيدة مع نفسك، ومع الكون وكائناته، من دون الرسم تشعر أنك كائن ناقص الحضور، إذا كان هذا هو إحساسك، فمعنى ذلك أنك “موهوب” مهما ادعى الآخرون احتكار هذا المفهوم المطاط والغيبي والميتافيزيقي. رهانك الآن مع نفسك والمطلوب منك أن تظل تجرب قدرتك على التعبير بالرسم، فإذا حدث الشغف وزاد الفضول واستمر، فعليك فورًا أن تتعامل مع نفسك بوصفك آلة إنتاج أو مشروع، وسط أي ظروف: اقتصادية أو نفسية أو جسدية، عليك أن تبرمج أمورك على أنك موجود في هذه الحياة كآلة إنتاج لـ”شغفك”، أن تنظر إلى نفسك بوصفك مشروعًا، مقياس الربح والخسارة فيه هو استمرار الإنتاج وتحقيق حالة الرضا (المؤقت- المستمر!) وهو – أي هذا الرضا- الشعور الذي سوف يبقيك قادرًا على ممارسة كل شيء آخر في الحياة بطريقتك وبما يتوافق مع مزيجك الفكري والنفسي فتشعر بالسعادة: الحب والزواج والصداقات والعمل من أجل البقاء. إذا لم تفعل ذلك، ستظل تحيا، وسوف تمارس كل ما يمارسه الآخرون، ولكن بمنطق “أداء المهام” وبلا متعة أو سعادة.
يقف إسلام عند كلمة “الشغف” ليصنع في الحوار منحنى صاعدًا، يقول: “البعض، يرى أن مصطلح الشغف يقف وراء فساد الكثير من المهن والوظائف، يتعاملون معه بوصفه “شماعة” لتعليق الفشل عليها”!
وكان علي أن أدافع -ليس عن الشغف، ولكن عن مفهومي له، فقلت: الشغف مظلوم بلا شك، الخطأ في مفهوم الناس له وتطبيقاتهم؛ أصل الشغف مجرد مصطلح يحاول وصف مقدار تعلق الإنسان بشيء أو بعمل أو بفكرة، محاولة لوصف علاقة قوية لا انفصال فيها، وهو تحديدًا ما نريد الوصول إليه بالمصطلح، ما رأيك لو قلنا “التعلق الحقيقي”!؟
شغف مجرد كلمة نحاول من خلالها إضافة هامش ما وراء طبيعي إلى المعنى الذي نريده، لوصف هذه الحالة من التعلق غير المبرر عقليًا أو ماديًا عندما يعجز الكائن عن فهم سر الارتباط والتعلق بأمر أو بشىء أو بعمل، إلى حد عدم القدرة على التخلي عنه.
هنا نحن نتحدث عن ظاهرة محددة بغض النظر عن المصطلح الذي قد ينمو وتسوء سمعته منفصلًا عن الظاهرة التي وُصفتْ به.
ولا تنس أن هذا الأمر حدث مع مصطلح الفضول أيضًا، ثمة إصرار –في ثقافتنا- على قتل العقل الناقد، والمتسائل، والفضولي؛ عد إلى معاجم اللغة أو قواميسها ستجد أن تعريفات الكثير من الكلمات ليس مرتبطًا باشتقاقها اللغوي، إنما بمعناها الاجتماعي أو الاصطلاحي المرتبط بثقافة محددة الزمان والمكان، وهو أمر ينعكس سلبًا على حساب اللغة وعلى حساب ثقافتنا وقدرتنا على تطوير أفكارنا ولغتنا أيضًا باعتبارهما وجهان لشيء واحد.
الفضل لغةً هو الزيادة، أو ما بقي من الأشياء بعد سدها للحاجة، فالفضول إذن مرتبط بالزيادة، وعليه يمكن أن نقول إن الفضولي هو شخص يعتقد دائمًا أن وراء الاشياء زيادة ما تستحق السعي لاكتشافها، وهو الشخص الذي لا يكتفي بسد الحاجة ولا يقنع بما هو متاح، لماذا يكون الفضول دائمًا انتهاكًا لعورات الناس أو طمعًا في ما لديهم؟ أمر مريب! هو كذلك لأن “الفضولي” بالمعنى الموازي للعقل الناقد الذي لا يكتفي باستقبال ما يُبث إليه، بل يتحرى ما وراء “البث” هو بالنسبة للمجتمع المحافظ، أو الخائف، وبالنسبة للسياسة ولأصحاب السلطة مخيف، هو شخص لن يقنع بالقشرة التي يُخفون بها أمورهم، فكانت النتيجة وسم الفضولي بالعار وربطه في أذهان الناس بالطماع الذي لا يشبع من المال، والجائع الذي لا يشبع من الطعام، والنابش في أسرار الناس.
الفضل من ناحية المعطي هو الإحسان بلا مَنّ، ومن جهة الراغب هو الرغبة في المزيد. فببساطة يمكننا أن نقول: إذا كانت الرغبة في المزيد رغبة معرفية وعلمية فلماذا تظل مذمومة بفعل احتكار الفضول لدلالة اجتماعية تاريخية؟ الإجابة لأننا نحكم على التطبيقات وليس على المفاهيم المجردة، وهذه –في رأيي- أحد أبرز ملامح أزمة العقل العربي، ناسر المفاهيم في مصطلحات نغلقها على تطبيقات وممارسات مغلوطة، فلا نعود لمراجعة لا المفردات ولا المفاهيم ولا المصطلحات ونتحجر في أماكننا.
ببساطة –لكي نتجاوز هذه النقطة- نقول: الفضول يمكن أن يكون لكل شيء، فضول … هكذا للفكرة، ولنقل إن حديثنا عن فضول للمعرفة وفضول للعلم… إلخ.
ولكي نعود إلى حديثنا، أقول إن الفضول لا يعمل تلقائيًا، أو هو لا يصبح مفيدًا إلا إذا كان وراءه “دافع”، والحديث عن الدوافع بحر كبير… دوافع الإبداع، دوافع القراءة، دوافع العمل، دوافع الحياة أصلًا، أما الدافع فيمكن أن يكون ماديًا/ عكس معنوي، أو معنوي.
مثلًا قد أكتب أو أرسم أو أعزف أو أرقص من أجل منفعة مباشرة مثل الحصول على مقابل مادي، أو منفعة مختلطة بين المادي والمعنوي مثل تحقيق مكانة مرموقة في مجتمع يمنح قيمة مادية واجتماعية لمن يمارسون هذه النشاطات. شخص آخر ربما يكتب أو يمارس أي من هذه الأنشطة من أجل إرضاء إحساسه بالمسؤولية تجاه الآخرين، وثالث يكتب لأنه يعالج قلقه بالكتابة، وهكذا… السؤال: من من هؤلاء صح ومن منهم خطأ؟
لا خطأ ولا صواب هنا، الفكرة أن يكون الدافع حقيقيًا، أي أنه يدفع (من معناه) ولا يترك صاحبه إلا وقد أنجز… هنا يثور الفضول ويتوجه فيصبح أداة للدافع، فصاحب الدافع في التفوق في القصة القصيرة سوف يعمل تلقائيًا في مساحة الاهتمام بالقصة القصيرة، تجده قادرا على قراءة 1000 قصة بلا كلل، وربما يتثاءب مع أول رواية.. والعكس، وتجده يقرأ في كل ما يتفق مع ميله ورغبته ويكتسب الخبرة والمهارة، وينتبه إلى كل الفنون وأشكال الحياة التي تصب في مساحة شغفه.
مع ثلاثي الرغبة والدافع والفضول، يمكن أن تبدأ آلة الإنسان في العمل.. والفارق بين من يعي ذلك ومن لا يعيه؛ أن الأول يتطور بشكل منضبط ويراكم حسًّا وقدرة على نقل هذا الحس إلى الآخرين فتتطور الحياة، بينما ينضم الآخر إلى صف الرجل الذي عندما دخل بيتًا مريحًا لم يجد في طاقته الفكرية للتعبير عن ارتياحه سوى القول: “الله، أنا مرتاح”، ولا أجد في ذلك عيبًا بالطبع.