سبتمبر 2017
“أجمل حب، وأكبر حب، بلدي.. ما بين جناينها مشيت، بلدي.. ما بين بساتينها حييت، بلدي.. لبلدي كتير غنيت، لاسماعيلية”.
نرشح لك : رسميًا: موعد وقفة عيد الأضحى
إلى مسامعي ترددت كلمات هذه الأغنية بصوت حلو، ولحن متقن، تلفت حولي في ذهول، فهنا في حواري منطقة بين السرايات، وخصوصا في ساعات الليل المتأخرة طبيعي أن تلمح شابا يدخن سيجارة حشيش، أو بعض الأطفال يلعبون “البلي” أو الكرة، لكنك يستحيل أن تجد من يعزف ويغني، ثم أن هذا الشارع يبدوا مظلما وخاليا تماما من أي مقاهي، فمن يا ترى هو صاحب هذا الغناء والعزف؟!
نرشح لك: محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. بورسعيد وبلطجية الشبول
في منتصف الشارع الضيق لمحت نورا خافتا ينبعث من ورشة ترزي إصلاح ملابس مكتوب على لافتتها (أبو هند الترزي)، اقتربت من الورشة فإذا هي مصدر هذا الصوت، داخلها كان يجلس رجل ستيني بجوار ماكينة الخياطة واضعا العود على قدمه، وغارقا في عالم من العزف والغناء.
شعر بدخولي فتوقف عن العزف والغناء؛ وقال: “مساء الفل، عاوز تظبط بنطلون ولا قميص؟” فقلت أنا: “لا قميص ولابنطلون، أنا سمعت صوتك الحلو، قلت آجي اتسلطن شوية”. أكمل الترزي وصلة العزف والغناء، دون أن يسألني من أنت؟ ما اسمك؟ أو أيا من تلك الأسئلة، كأنه أحب أن يكون له جمهور حتى لو كان شخصا واحدا ومجهولا تماما بالنسبة له.
مع استمرار الترزي “أبو هند”، في العزف والغناء، ورغم أنني غير متخصص في الموسيقى، إلا أنني أدركت بسهولة أن هذا الآداء لا يمكن أن يكون أنعكاسا لهواية فقط، فالترزي كان يتنقل بين المقامات عزفا وغناء بسلاسة خبير محترف، وليس هاويا علم نفسه بنفسه، ولذلك تصورت أن حال هذا الترزي كحال كثير من محبي الغناء والموسيقى ممن يدرسونها في شبابهم ويتدربون على العزف أو الغناء لفترة أملا في الاحتراف، ثم يطول عليهم الأمد، فينقطعون إلى أي مهنة أو عمل جريأ وراء لقمة العيش، ولا يبقى لهم من الحلم القديم إلا بقايا هواية.
نرشح لك: محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. تربي أسيوط ودفن الملائكة
لكي لا أبقى رهنا لتوقعاتي، ولأنني بطبيعة الحال مغرم بالتفاصيل، فقد انتظرت حتى انتهت وصلة الترزي الغنائية، وبادرته قائلا “تسلم إيدك ويسلم لسانك، يا “أبو هند”، إيه الفن ده، بس أنت شكلك كده متدرب كويس مش مجرد هواية، ولا إيه؟”
لم يرد علي أبو هند بأكثر من ابتسامة ساخرة، لم أجدد بالضبط إن كانت تسخر من جهلي، أم من قسوة الزمن، ولذلك انتظرت أنا اجابة ابو هند، وانتبه هو بعد قليل أنني لا زلت في انتظار الأجابة، فمال قليلا للخلف داخل ورشته، التي كانت ضيقة إلى حد أن ميلته الصغيرة هذه مكنت زراعه من الوصول إلى مخزن الورشة، والتقاط ألبوم صور، سلمه لي أبو هند.
نظرت للألبوم فدارت بي الدنيا! الألبوم كان مملوء بالصور، وقصاصات ورق لمقالات وأخبار صحفية تتحدث كلها عن المطرب الشاب الصاعد -وقتها- محمد الاسمعلاوي، الذي هو نفسه، ابو هند الترزي. في الصفحة الأولى من الألبوم، قرار صادر من الإذاعة المصرية باعتماده كمطرب وملحن للإذاعة منذ أربعين عاما تقريبا. وفي الصفحات التالية من الألبوم صور لمحمد الاسمعلاوي وهو يغني في بعض الحفلات والسهرات التليفزيونية، وصور أخرى تجمعه مع عمالقة الغناء والتلحين في نهاية السبعينيات.
أغلقت ألبوم محمد الاسمعلاوي، وعدت بنظري إلى “أبو هند” الترزي، وقد ادركت معنى نظرته الساخرة التي كانت لا تزال مرسومة على وجهه حتى الآن.
بعد ذلك أخبرني أنه كان مدرس موسيقى موهوب في العزف والغناء، ترك بلدته -الإسماعيلية- بحثا عن أبواب الشهرة في عاصمة المعز.
صوت الاسمعلاوي وعزفه أبهر النقاد وكبار الملحنين، حتى اعتمدته الإذاعة المصرية مطربا وملحنا بها، لكنه أدرك سريعا أن الموهبة واعتماد الإذاعة ليس هما تذكرة العبور الحقيقية إلى صف المطربين والملحنين الأول. فتأشيرة الوصول الأهم هي الاندماج في الوسط الفني، والانضمام إلى شلله التي لم يكن الاسمعلاوي قادرا على الوصول لها أو التواصل معها.
الاسمعلاوي قرر سريعا أن يعود إلى وظيفة مدرس الموسيقى صباحا، وإلى مهنة العائلة -الترزي- عصرا، حتى وصل إلى سن التقاعد فأصبحت مهنة الترزي هي رفيقته في الصباح والمساء، ولم يعد للفن في حياته إلا مساحة صغيرة جدا بحجم الزاوية البعيدة في مخزن الورشة التي يضع فيها أبو هند عوده القديم الذي يخلو له في ساعات الليل المتأخرة بعدما تخف الرجل عن الورشة، وينام جيرانها، ليوقظ هو روح محمد الاسمعلاوي التي تنهض من داخل وجدان “أبو هند” الترزي فتعزف وتغني: “الشوك في القلب فرع، وزهر بالحنين، ما تحليش الضفاير، ولا ترمي الشال حزين، داحنا كلنا حواليكي، فدا لعيون ياسين”.
كانت دندنة “أبو هند” الترزي تداعب أذني وأنا أغادر ورشته، فمددت يدي وأخرجت هاتفي المحمول..
أنا: مساء الفل يا قائد احجز لي كاميرا بكرة الساعة 12 بالليل.
مسئول التقارير: عنوان التقرير ايه؟
أنا: “أبوهند” الترزي، وحكاية العود.