يَشقُ القَمر السّماء، ويرقُص احتفالاً مع كل رواية جديدة، وتَنقلب الفُصول الأَربعة، وتُغير مَواعيدها مع مِيلاد كل كاتب جديد، فما بالك لو كان الكاتب كبيراً من العمل الأول، فريداً من التجربة الأولي، مختلفاً عن السائد، وغريباً عن شلل الأدباء وأدعياء الثقافة.. لا يجف الإبداع في مصر، وهذا سر عظمتها، يموت كاتب عظيم فيأتي كاتب أعظم، يصمت شاعر، فيرتل سحر البيان شاعر جديد.
حاتم القاضي، الشاب الأربعيني، كان الطالب الهادئ يترقبنا من خلف نظارته الطبية في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، قبل ثلاثين عاماً، يحمل الكتب، ويتكلم سريعاً، ويصاحب القلة، ولا يشاركنا السياسة ولا الغضب ولا التمرد.. فور التخرج التحق بالعمل في صباح الخير، ثم خرج في ليلة من شارع القصر العيني، بعد معاناة لثلاثة أعوام في دهاليز صخب صاحبة الجلالة، واختفي تماماً.. لم يكن هناك دليلاً لابن شارع الجيش القاهري سوي الذكريات، والوحمة الحمراء الضخمة التي تملأ نصف وجهه الأيمن.. قبل أسبوعين فوجئت به أمامي يزورني بالجريدة، ويقدم بخجل لي روايته الأولي “المملوك”.. وبسرعته المعتادة قالي لي أنا مهتم تقرأ النص فقط.. ثم اختفي ثانية.
نرشح لك: “حارة وحيطة وعربية”.. تجربة شعرية جديدة لـ حازم ويفي
قال لي صديقي في كندا أحمد غريب:”هذا كتاب مهم”.. ما إن التهمت الصفحات الأولي، حتي شعرت بمذاق التفاح، ورغبة الطفل الذي يخشي أن تنتهي متعتها سريعاً.. توقفت لا أريد أن انهيها.. “حاتم” ترك الصحافة وعمل بالبترول من أجل أن يكتب، كان ذكياً أراد امتلاك الوقت والحرية معاً من أجل أن يحكي ويقص ويشاغب، فجاءت تحفته التي تستحق الاحتفال “المملوك”.
النص يغوص في عالم المماليك بمصر خلال 400 عاماً.. يشاغب حاتم بأنها ليست رواية ولا تاريخاً.. ويبدأ في الحكي بنفسه الأمارة بالسوء التي ليس له عليها سلطان.. يبدأ بابتلاء بيبرس بدم قطز..يحكي عن شجر الدر التي تشعر بالبرد فيدفئها الكبرياء، قبل أن يُهتك عرضها ويُقطع جسدها بأيدي نسوة الحارات المستأجرات، ثم يلقينها من فوق القلعة..قصة قايتباي البخيل، وقنصوة الغوري وكيف وصل للحكم.. يروي عن التاجر الذي لا وقت عنده إلا لحب الذهب ونفسه. عن الجواري والسلاطين، واللبن والعسل ومشروب المنزول الذي يدير الرؤوس، والدخان الذي لا تبصره العيون، والهمسة التي لا تصل للآذان، وعمن يأكل لحم أخيه “لا يسلَمُ من ضباع الأرض ولو أمهلوه”.. يحكي بالنهاية عن مصر، وشعبها، بلغة شاعرية، ومدهشة.. هذه رواية عظيمة لا تُحكي، تُفتت الأساطير، وتتحدث بأمانة عن الوطن، وتمنحك السعادة مقابل الوقت، وتغير الحياة.