مسرحية «الحادثة»... عندما يتحول المقهور إلى نسخة من قاهره

نقلًا عن الحياة اللندنية

يسري حسان

يكتسب نص «الحادثة»، الذي كتبه المصري لينين الرملي عن رواية «جامع الفراشات» للكاتب الإنكليزي جون فاولز، أهميته من كونه نصاً قابلاً للتأويل على أكثر من وجه. ومن ناحية أخرى لكونه صالحاً للتقديم في أي زمان وأي مكان، أي أنه غير قابل للتقادم، باعتباره يناقش موضوعاً سيظل مستمراً ما استمرت الحياة، ألا وهو محاولة فرض الحب/ السيطرة بالقوة.

نحن أمام شاب غريب الأطوار، يختطف فتاة ساعياً إلى انتزاع حبها والسيطرة عليها بالقوة، وبمرور الوقت تتحول المختطفة إلى نسخة منه، وتصبح هي وهو شيئاً واحداً، حتى عندما تتاح لها فرصة الهروب لا تستطيع وتتمسك بالبقاء في محبسها.

نرشح لك : حسين عثمان يكتب: ملاحظات العيد السبعة

هي العلاقة بين الرجل والمرأة على أحد المستويات، وعلى مستوى آخر هي العلاقة بين الحاكم المغتصب للسلطة وبين شعبه، وكيف يتحول المقهور إلى نسخة من قاهره ويتمسك بالبقاء تحت سيطرته.

ربما تعمّد الكاتب أن يكون بطل نصه شبه مختل، ويعاني انفصاماً في الشخصية، في إدانة مضمرة لكل من يغتصب سلطة أو حباً بالإكراه، وإن دان أيضاً مَن يخضع للمغتصب ويتماهى معه ويصير نسخة كربونية منه.

وهنا يمكننا اعتبار النص من نوعية «السيكودراما» التي تتعامل مع تشريح النفس البشرية.

وإذا كان الهدف من السيكودراما إيجاد حلول للمشاكل مِن طريق مساعدة الشخص في فهم مشاعره عبر تجسيد الواقع في شكل تمثيلي، فإن المقصود هنا هو المشاهد ذاته، فربما توصّل إلى إجابة عن أسئلته العالقة التي يطرحها عليها واقعُه.

اختار المخرج عمرو حسان هذا النص ليقدمه على مسرح «الغد» في القاهرة، بمجموعة من الممثلين الشباب.

وهو اختيار صعب بالتأكيد في ظل أنه سبق تقديم العمل نفسه قبل أكثر من عشرين عاماً بواسطة مخرج مخضرم (عصام السيد) وممثلين موهوبين (عبلة كامل وأشرف عبدالباقي). إذاً؛ كان المخرج الشاب أمام تحدٍ كبير، للتعامل مع نص سبق تقديمه بنجاح بواسطة عناصر أكثر خبرة.

اجتهد المخرج وفريق عمله في تقديم شيء يخصهم، ويخص لحظتهم، مدركين أن عشرين عاماً كافية لجريان مياه كثيرة في الأنهار، سواء من حيث اللغة المستخدمة أو بمعنى أدق طريقة استخدامها، أو من حيث الحركة والرقص والاستعراض والأزياء، وغيرها من مستجدات كثيرة حدثت لا بد للمسرح أن يتأثر بها.

استهل العرض بمشهد سينمائي، غير موجود في النسخة القديمة، وهو المشهد الذي يراقب فيه الخاطف المختطفة، واختزل به مساحة من زمن العرض، فضلاً عن استعانته بمجموعة من الشباب الذين يمثلون الأشباح التي تطارد الفتاة في محبسها، وأحسن مصمم الرقصات محمد بكر تدريبهم على أداء حركي يناسب شخصياتهم.

نحن أمام شاب غريب الأطوار، يحمل ثلاث شخصيات دفعة واحدة، المختطِف العنيف الدموي، المحب الضعيف المتخاذل، المراقِب الذي يبدو حكَماً أو واصلة بين الشخصيتين شديدتي التناقض، وهو ما تطلّب جهداً فائقاً من الممثل مصطفى منصور، ليجسد تلك التحولات بقدرٍ ملحوظ مِن الاتقان.

هذا الشاب يختطف فتاة إلى بيته في منطقة صحراوية، ويسعى إلى فرض حبه عليها تحت التهديد! وبعد مرور شهر يصبح وجوده بالنسبة إليها أمراً لا تستطيع العيش من دونه، بل إنها تتحول إلى صورة كربونية منه، ويتم استبدال صورتها بصورته المعلقة على جدران البيت، وفي الأخير تلقي بمفتاح البيت من النافذة لتؤكد رغبتها في البقاء داخل هذا المحبس وربط مصيرها بمصير خاطفها. هكذا يتماهى المقهور مع قاهره، بل ويعتبر وجوده خلاصاً له، واستغناء به عن أي شيء آخر. هي المرأة في بعض الحالات. هي الشعوب في كثير منها. وكما نجح مصطفى منصور في فهم أبعاد شخصيته وتحولاتها وتناقضاتها، نجحت ياسمين سمير في تجسيد صدمة المخطوفة، مروراً بمحاولاتها للمقاومة والهرب، وانتهاء بتحولها إلى نسخة مِن خاطفها، وعدم قدرتها على الاستغناء عنه.

أهم ما في العرض هو إيقاعه. مشاهد خاطفة ودالة بعيداً مِن الإطناب والترهل. قدرة على إحداث حالة من الترقب لدى المشاهد لما ستسفر عنه الأحداث. ليست قصة بوليسية، لكنها دراما اجتماعية سياسية، تشير ولا توضح، تلمح ولا تصرح، وكل ذلك في إطار كوميدي غالباً.

اجتهد المخرج في صنع صورة مسرحية، بدءاً من الحركة، ومروراً بإضاءة عز حلمي التي تنوّعت درجاتها وألوانها لتتماس مع المشهد في خفوته واحتدامه ولحظات صفائه ولحظات عنفه وتحولات شخصياته، فأعطى لكل حالة إضاءتها التي ساهمت في صنع الدلالة، وكذلك الديكور الذي صمّمه محمد فتحي ويعد واحداً من العلامات الدالة في العرض. فالمنزل الذي صمّمه جاء بواسطة قماش مشدود على قوائم خشبية. منزل هش يمكن الرياح أن تذروه في أي لحظة، والخطوط المرسومة متداخلة ومتشابكة وكأنها القيود المفروضة على مَن في داخله، كما كان مقتصداً في محتوياته التي لم تكن مجانية، إذ أتاح مساحة لحركة الممثلين واستعراضاتهم، بخاصة أن قاعة «الغد» أو الجزء الذي تم اقتطاعه منها للتمثيل لم يكن كبيراً.

زمن العرض في نسخته القديمة نحو ثلاث ساعات، بينما لم يستغرق في نسخته الجديدة أكثر من ساعة، مع الأخذ في الاعتبار أن لينين الرملي هو مِن المؤلفين الذين لا يقبلون أي تدخلات في نصوصهم، سواء بالحذف أو الإضافة، لكن المخرج حافظ على النص الأصلي وقدّمه في زمن أقل وبإيقاع متدفق ولاهث، وأدهشَ المشاهد بهذه القدرة على الاختزال والابتعاد عن الزوائد وكل ما هو مجاني.