كنت أتصور أن الفلسفة لا تعني سوى أن تكون حذقاً، تملك مهارة الكلام أكثر من غيرك، وقدرة خاصة علي التأمل في الأفق والفضاء الواسع لتتمكن من الإتيان بتلك الحِكم العميقة والبليغة، أليست الفلسفة هي نفسها تلك العبارات التي نقرؤها علي الجدران أو بين السطور وعلى لسان المثقفين؟ نعم هي كذلك دون شك، وإلا فما عساها أن تكون؟!
قلت لنفسي ما أسهله ذلك العمل الذي يحتاج بالكاد قدراً محدوداً من المعلومات، ومساحة رحبة وشاسعة من الوقت والفراغ لدواع “التأمل”، ثم يكون المرء بعدها قد استوفى المسوغات التي تؤهله لذلك المنصب، وتجعله جديراً بكتابة اسمه بارزاً وسط زملاءه من الفلاسفة أمثال العظماء سقراط وأرسطو وابن سينا وغيرهم.. “يا له من C.V”.
كان هذا كافياً بالنسبة لي لأحدد أي الطرق سأسلك في المستقبل. لذا عقدت العزم منذ الصغر علي أن أمتهن هذه الفلسفة البسيطة للغاية، والتي ستدر عليّ بالتأكيد الكثير من الوجاهة والفخامة، وسأحظى بنصيب معقول من الشهرة، فيُشار إليّ بين سادة المجتمع ونبغائه بأنني “الفيلسوف فلان”. “ما أعظمها هذه الفلسفة”.
فعلت كل هذه الأشياء، خططت واخترت وقررت، قبل أن أقرأ كتاباً واحداً في الفلسفة. اعتبرت أن ما أعرفه وقتها مناسبا جداً لأبدأ المشوار السهل، فأنا أميل للوصول إلي النهايات سريعاً خشية أن يفتر حماسي. رأيت أيضاً أن ما تضمه أعتى كتب الفلسفة لن يكون أصعب من الحكمة الأفلاطونية: “قليل من العلم مع العمل به أنفع من كثير من العلم مع قلة العمل به”. كم هي شاقة الفلسفة في بعض الأحيان. لكن لا بأس، فلو أُتيحت لي الفرصة مع بعض التدريب سآتي حتماً بعبارات فلسفية أكثر عمقاً ومراوغة واستصعاباً في الفهم.
نرشح لك: هاني هنداوي يكتب: فليكن “الفيس بوك” اختيارنا.. !
ظل شيء واحد يقف مانعاً أمام طموحي الكبير في “كاريير” الفلسفة، وهو أن معظم الفلاسفة بلغوا من الكبر عتيا. فجميعهم من أصحاب التجاعيد والشعر الأشيب بلا خصلة واحدة سوداء. أهذا يعني أن انتظاري سيطول؟. ما هذا الهراء؟! ولوهلة فكرت أنني سأُمثل إضافة جديدة للمهنة. سأكون “الفيلسوف الشاب” الذي جاء لتجديد الدماء الفلسفية، ولا مانع كذلك من نكاية هؤلاء الحمقى الذين أضاعوا أعمارهم فصاروا فلاسفة وهم علي أعتاب القبور. “حقاً. يا لها من إضافة عظيمة من جانبي”.
جاءت صدمتي الأولي مع الفيلسوف اليوناني “سقراط”. اخترته لأناطحه في البداية بعد أن عرفت أن زملاءه يسمونه “أبو الفلاسفة”. فهات ما عندك يا سقراط لأستزيد به كي أصبح حكيماً في أقرب وقت. تجلت المفاجأة الأولي في أن “إمام الحكمة” نفسه أوجز مُجمل فلسفته في عبارته الشهيرة: “كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئاً”.. ماذا؟! ويحك يا سقراط. ومن عساه يعرف إن كنت أنت الذي يمجدونه ويعظمونه تدّعي الجهل وعدم المعرفة؟
توالت المفاجأة بعدها التي ظلت تطرق رأسي بعنف فزادت آلام “الصداع” بدلاً من حبي للفلسفة. فسقراط العظيم لم يكتب أي شيء عن أفكاره الفلسفية إنما اعتمد علي طرح الأسئلة علي الناس. كان يقول إنه علي بيّنة بجهله عكس الآخرين الذين يدّعون المعرفة دون إدراكهم لما يملكونه من جهل. كان يستوقف المارة في الشارع ليسألهم: “يا أحبائي، هل تعرفون ما هو الخير؟. الحق؟. العدل؟”. كان يسمع منهم ليستشف الحكمة من أقوالهم وسلوكهم فقط ليفهم ويعرف.
كان جندياً شجاعاً في ميدان العسكرية، ورجلاً شجاعاً حين واجه الموت في سن السبعين. رفض الهرب أو الاعتذار عن مبادئه وقال إنه “لن يرفض فلسفته حتي يلفظ النفس الأخير”. قتلوه لأنه كان يدعو للحكمة والأخلاق والمعرفة. قال إنه “مثل ذبابة كبيرة تلسع أثينا طوال الوقت لإبقاءها علي قيد الحياة”. وقد نالني أنا أيضاً بعضاً من لسعاته المؤلمة مع عبارته البليغة: “دع الذي يريد أن يحرك العالم. أن يُحرك نفسه أولاً”.
كفاك إحباطاً يا سقراط. فأنا من يسعر لتحريك كل شيء حوله فيما أبدو قابعاً في مكاني منذ سنوات دون تغيير. أهكذا يتحدث الفلاسفة عن أبناء نفس “الكار”؟. عموماً، فلترقد بسلام واتركني ماض في طريقي نحو حلم “الفيلسوف الشاب”، وسأعرف ضالتي من تلميذك “أفلاطون” الذي دوّن أفكارك علي الأوراق في شكل محاورات. وهي الطريقة التي كنت تُفضلها يا سقراط. الحوارات بين البشر.
لم يكن أفلاطون أيسر من أستاذه سقراط. بل كأنه جاء بحجر ضخم ليلقيه في طريقي الصاعد نحو قمة الفلسفة. أفضل ما أعجبني فيه أنه دعا إلي “جعل الفلاسفة ملوكاً”. هذا فقط ما استطعت جمعه من أفلاطون. كان مقتنعاً بأن السياسة على يد الفيلسوف ستحوّل العالم في اتجاه الخير. لكن أكثر ما أتعبني في هذا الرجل أنه اشترط دراسة الرياضيات لفهم الفلسفة. وكتب علي باب أكاديميته التي أسسها لتدريس الفلسفة، وكان أرسطو أحد تلاميذها، عبارة أيأستني لخيبتي الثقيلة في الحساب والهندسة، وهي: “لا يدخل الأكاديمية إلا من كان رياضياً”. كما كتب نفسه في الرياضيات والميتافيزيقا والمنطق واللغة والأخلاق والسياسة وغيرها. وكلها تعد شروحات لأفكار المعلم الأكبر “سقراط”.
بدأ حلم الفلسفة يتلاشي رويداً مع التلميذ الأصغر والأنبغ أرسطو. كان موسوعة علمية في كل شيء. نموذجا للفيلسوف العالم والفقيه. وعلي دربه سار فلاسفة كثيرون. لقبوه بـ”أبو الأحياء”، فإليه يرجع الفضل في تأسيس هذا العلم. كتب أرسطو نحو 200 عمل في الفيزياء والشعر والموسيقي والمسرح والمنطق والتشريح والأخلاق والسياسة وعلم الحيوان. كان يجمع النباتات والحيوانات أثناء حملاته مع الإسكندر باعتباره معلمه ثم يرسلها إلي أكاديميته للأبحاث البيولوجية في أثينا. أطلقوا عليه لقب “المشاء” لأنه اعتاد المشي أثناء تقديم دروسه لتلامذته. كان مهندماً يحب الاعتناء بمظهره، وهو ما دفع أفلاطون لانتقاده، فقال عنه: “هيئته المهندمة لا تتناسب مع كونه فيلسوفاً”.
لكي يفهم الفيلسوف عالمه عليه أن يستزيد من كل المعارف قدر الإمكان. “كلما ازدت علماً كلما ازددت جهلاً”. فالمرء مهما بلغ علمه لا يعرف شيئاً أمام هذا المجهول الذي لم نكتشفه بعد. تماماً مثلما كان يقول سقراط. لم يكن هناك فيلسوفاً جاهلاً أو مُدعياً للحكمة. كانوا جميعاً يسعون إلي الحقيقة بكل طاقاتهم. أفنوا حياتهم بحثاً عنها. ولعل الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” كان أكثرهم بؤساً في حياته. جُن وأودع مستشفي الأمراض النفسية من شدة تأثره بمعتقداته، وأيضاً حسرة علي حبيبته التي تزوجت غيره. لم يكن يؤمن بوجود الإله، وأوصي شقيقته بألا يتلو عليه القسيس أي وعظ، قال: “إذا متُ يا أختاه لا تجعلي أحد القساوسة يتلو عليّ الترهات في لحظة لا أستطيع فيها الدفاع عن نفسي”.
الآن، ضاعت آمالي في أن أُصبح “الفيلسوف الشاب”. فكلهم بدأوا حياتهم في سبيل فهم العالم منذ كانوا شباباً. درسوا العلوم بتفريعاتها وأمضوا معظم الوقت في البحث والتحليل. ابن سينا كان فيلسوفاً وطبيباً وشاعراً وموسيقياً ومخترعاً، ومثله الفيلسوف جابر بن حيان الذي اعتبره الغرب “الأب الحقيقي لعلم الكيمياء”. والإثنان قدما دراسات عن الفلسفة وأرسطو وأفلاطون وغيرهم. فالعلم امتداد للسلف. لا يعرف ديانة أو جنسية. الكل يأخذ من بعضه. ولا فضل لأحد إلا بما أضاف من المعرفة للمساهمة في إصلاح البشرية. “يا لها من مقبرة لأحلامي”.
في نهاية مشواري الفلسفي الذي لم يدم طويلاً، أو بالأحرى لم يبدأ من الأساس، أدركت أن الفلسفة ليست أن تُجادل فحسب. بل ضرورة أن تعرف أولاً علي أن يأتي بعدها وقت المجادلة. جدال عن علم ودراية لا عن جهل أو حذاقة. فربما ضاعت أحلامي في أن أصبح فيلسوفاً أو نداً لهؤلاء العباقرة. ربما أنا مجرد قاريء للفلسفة لا صاحب نظريات، ولن أكون يوماً. لكن يكفيني ما تعلمته من سقراط الذي جعلني علي بيّنة بجهلي مثله. فالآن بت أعرف جيداً أنني لا أعرف شيئاً. وهي الحكمة التي قضي سقراط عمره ليعرفها.. آسف، أقصد زميلي سقراط.