زيارة ديار العباقرة رزق؛ وقد رٌزقت الزيارة نهاية الأسبوع الماضي، لكن الزيارة لها ما قبلها؛ حين عملت يوماً تحت رئاسة زوج ذاك العبقري، السيدة ميرفت القفاص، لمدة عامين تقريباً؛ كانت وقتها ترأس قناة النيل الدولية، التى كنت رئيساً لقسم الإعداد والبرامج فيها؛ سنتان مفصليتان بدأتا بزيارة أوباما التى أعتبرت تاريخية للقاهرة، وإلى ما بعد قيام ثورة يناير ، والتى تعرض خلالها زوجها الموسيقار العملاق عمار الشريعى لأولى أزماته القلبية المؤثرة، لتبدأ من بعدها محنة مرضه المؤلمة، التى آلمت وأحزنت كل من لمس إنسانية الرجل.
حتى من لم يجمعهم به القدر فى لقاء مباشر ؛ فقد كانت مصر كلها تحبه وتقدره دون حتى أن تراه، وقد كان كافياً لى وللجميع أن نستمع لصوته المفعم بالحيوية فى حلقة من حلقات برنامجه الإذاعى الشهير “غواص فى بحر النغم ” الذى ثقفنا وحببنا جميعاً فى الموسيقى ومبدعيها ، أو أن نسهر معه على شاشة دريم على أنغام سهرته التليفزيونية الموسيقية الممتعة التى حملت اسمه، والتى زينها كعادته التليدة بحديثه البسيط العميق فى آن، حديثه الذى كنت تستمع إليه كأنك تستمع إلى إنسان مصرى عادى بسيط خفيف الظل، لا إلى موسيقار مخضرم ينتمى إلى جيل العمالقة.
موسيقار من الطراز الرفيع، حفرت موسيقاه مكانها الثابت فى ذاكرة كل المصريين، فأنا شخصياً كنت أهرول مسرعاً بحقيبة مدرستى الابتدائية، كى لا يفوتنى سماع موسيقى تيتر مسلسل “دموع فى عيون وقحة” الذى كان وقتها يعاد على شاشة التليفزيون المصرى وقت الظهيرة، ذلك العمل الذى تعلمنا من خلاله معنى الوطن والوطنية، وإلى الآن تتكرر ذات القشعريرة التى تعترى جسدى تلقائياً حين تتهادى إلى مسامعى موسيقاه البديعة؛ ذات الأحاسيس كانت تنتابنى وأنا عائد من درس اللغة الفرنسية وأنا بعد طالباً فى الثانوية العامة؛ ما إن ينتهى الدرس حتى أغذ الخطى إلى البيت على أنغام موسيقى رأفت الهجان الذى كانت الشوارع تخلو من الناس ساعة إذاعته، فكانت موسيقاه ٌتسمع واضحة عبر نوافذ البيوت وتليفزيونات المحال التجارية والأكشاك.
كل هذه الذكريات تجمعت فى لحظة، حين هاتفت السيدة ميرفت القفاص كعادتى منذ أن تركنا – هى وأنا – القناة للتحية والسلام، لكنى هذه المرة كنت أريد لقاءها كى أهديها روايتى الجديدة “المارينايو”؛ فإذا بها تدعونى إلى فنجان قهوة؛ لم أكذب خبراً، فلم أكن لأدع فرصة ذهبية كهذه لتفوت، فقبلت الدعوة على الفور ؛ فرغم عملى الإعلامى الطويل ولقائى عشرات الفنانين فى منازلهم وخارجها سواء فى مواقع عملهم فى بلاتوهات التصوير ، أو أثناء مشاركتهم فى مختلف المهرجانات الفنية التى كنت أقوم بتغطية فعالياتها ، إلا أن هذا الرجل مختلف، مختلف تماماً.
لذا فقد حدث ما توقعته بالضبط، ما إن عبرت بسيارتي كبري المنيل في طريقى إلى البيت وانعطفت يميناً باتجاهه حتى سمعت قرع الطبول الذى هو صوت دقات قلبى الذى أعرفه جيداً فى مثل هذه المواقف؛ فأنا الآن على بعد خطوات من بقعة من أهم بقاع الموسيقى والدراما المصرية بل والعربية على مدى ما يقرب من أربعين سنة، وبعد دقيقة على الأكثر، سأكون فى رحاب المكان الذى وضعت فيه الألحان والموسيقى التصويرية لما يزيد عن ١٥٠ عملًا فنيًا ودراميًا، غالبيتها من أهم الأعمال التى تفخر بها الدراما المصرية وتباهى بها منافسيها، أنا الآن بالقرب من منزل الوحى والإلهام الفنى، لعبقرية فذة من عبقريات مصرنا الجميلة، ولمعجزة إنسانية حقة لامست بإعجازها حدود أفعال الأبطال الخارقين. حفاوة وكرم الاستقبال خففا رهبة الدقائق الأولى، لأجد نفسى بعدها بقليل فى محراب الرجل، وداخل شرفته الشهيرة على النيل الخالد التى وضع فيها أعذب الألحان، ولأرى بأم عينى ذلك “الميكسر” بالغ الضخامة الذى يقدر عدد أزراره بالمئات، لأقف مشدوهاً وأنا أحاول أن أتخيل كيف كان يعرفها ذلك الفذ، زراً زراً ومفتاحاً مفتاحاً.
كيف طوع كل هذا الكم من التكنولوجيا لخدمة فنه العظيم، وقبل ذلك كله، كيف استطاع أن يلم ويلحق بكل هذا التطور الهائل فى عالمه الذى يتغير كل سنة تقريباً، كيف استطاع أن يحصد هذا الكم من الجوائز الذى عجزت عيناى عن إحصائه، كيف نشر أنفاسه وطيبته وإنسانيته كالعبير، كى أشتمها واضحة جلية فى مكانٍ، رحل هو نفسه عنه منذ سنوات؟! ُطٌلب منى أن ألتزم بعدد معين من الكلمات، وأنا أكتب هذا المقال عن زيارتى لمحراب الرجل، والتى ستظل محفورة فى ذاكرتى ما حييت، لذا أجدنى مضطراً للتوقف، مكتفياً بالدعاء له بالرحمة والمغفرة، وكلى يقين أن أرضنا الطيبة ستعوضنا عنه كما عودتنا، أما هو فاسمه قد كتب بالفعل بماء من ذهب فى كتب تاريخ الفن الإنساني.
نرشح لك: 9 تصريحات لـ ياسر نبيل..أبرزها عن كتابته لـ “المارينايو” في بورسعيد