ابتسام أبو الدهب
بمجرد أن تطأ قدميك منطقة الجمالية تشعر وكأنك تسير داخل لوحة فنية عتيقة مليئة بالممرات والأزقة الضيقة والمتشابكة، ويكسوها تراب القِدم. يمر الوقت عليك بداخلها وتتمنى ألا تخرج ثانية. فلا عجب من وقوع الأديب الراحل نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل، في عشقها.
احتلت منطقتي الحسين والجمالية بالقاهرة قلب محفوظ، حيث شكلت وجدانه وألهمته بشخوصها واستمد منها أحداث رواياته، فعاش طول حياته يرتاد المكان حتى بعدما انتقل للعيش خارجها. وفي الذكرى الـ 12 لرحيل عميد الرواية العربية والذي فارقنا في 30 أغسطس 2006، قام “إعلام دوت أورج” برحلتين؛ الأولى في حارات الحسين القديمة حيث تشكلت طفولة محفوظ، والثانية إلى منزله بالعجوزة حيث استقرت حياته.
مسقط رأسه
منزل يقع في درب قرمز يتكون من طابق واحد، طبعت السنين ملامحها على جدرانه فأصبح متهالكا يؤنسه في صمته نخلة جانبية. هنا مسقط رأس نجيب محفوظ، الذي ولد عام 1911 وعاش طفولته متنقلا بين حارات المنطقة القديمة. شهد ثورة 1919 وكان يسترق النظر لجنود الإنجليز من شرفة منزله.
الكلوب العصري
في مذكرات محفوظ التي نشرها رجاء النقاش في كتاب صادر عن دار الشروق، تحدث عن سينما الكلوب المصري، أقدم سينما صامتة في القاهرة، والتي كان يدخلها وهو في عمر الخامسة أو أقل وأصبح مغرما بما تقدمه من أفلام صامتة لشارلي شابلن وماكس ليندر.
يقول محفوظ: “منذ اللحظة الأولى عشقت السينما وواظبت على الذهاب إليها مع الخادمة حيث كانت أمي ترسلها معي. كانت كلمة النهاية من أشق اللحظات على نفسي، فقد كنت أتمنى أن أمضي اليوم كله داخل العرض وتمنيت لو أنني أسكن في دار عرض سينمائي فلا أخرج منها أبدا”.
انتقلت للبحث عن تلك السينما في خان جعفر المقابل لمسجد الحسين، ووجدتها بعد بحث حوالي 10 دقائق، حيث كانت غير واضحة للمارة وتخلو من أية لافتات تشير إليها. كانت بداخل ساحة يظن الزائر بأنها ورشة، ولكن بمجرد دخولها تجد أمامك مسرحا يعلو ثلاث درجات ومحاط بسور حديدي. وتوصلت إليها بعد أن اكتشفت اسمها الدارج بين السكان “الكلوب العصري”.
قهوة الفيشاوي
انتقل محفوظ وأسرته، عندما كان عمره حوالي 9 سنوات إلى بيت آخر بالعباسية ليعيش هناك فترة شبابه، ولكنه لم ينقطع عن منطقة طفولته فكان يزورها باستمرار متنقلا بين مقاهيها.
وكان أحب مقهى إلى قلبه هو الفيشاوي. ففي هذا المكان، كان له ركن خاص ينعزل فيه ليكتب ويجلس وحيدا يشرب القهوة أو الشاي الأخضر متأملا المارة الذين استلهم منهم أفكاره وأحداث رواياته.
الركن الآن عبارة عن غرفة صغيرة بها منضدة وثلاث كنبات خشبية، وجهازين راديو عتيقين، والكثير من الصور التي يظهر فيها محفوظ أو غيره من رواد المكان المشهورين.
“هنا عاش نجيب محفوظ”
وبالانتقال إلى منزل الأديب الراحل في حي العجوزة نجد لافتة ذهبية محفور عليها “هنا عاش الروائي نجيب محفوظ”، والتي وضعتها وزارة الثقافة بعد رحيله، وذلك ضمن مشروع لتوثيق الأماكن التي عاش فيها الفنانين والأدباء المصريين. يقع المنزل بالقرب من مستشفى الشرطة التي تلقى فيها محفوظ علاجه بعد محاولة اغتياله.
انتقل الأستاذ إلى ذلك المنزل بعد زواجه من عطية الله إبراهيم، أم بناته أم كلثوم وفاطمة.
أديب نوبل وكافيه “بلادي”
اعتاد محفوظ لسنوات طويلة على تناول قهوة الصباح الخاصة به (على الريحة)، جالسا على ترابيزا مخصصة له في الطابق الثاني بمقهى علي بابا، الذي يطل على ميدان التحرير.
كما كان يُعقد في المقهى صالون ثقافي كل يوم خميس، فيتجمع المثقفون والشعراء لمناقشة الأعمال الأدبية أو مناقشة الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
الآن لم يعد هذا المقهى موجودا، وكان قد تغير اسمه إلى “كافيه بلادي”، ولكن تم هدمه منذ عدة سنوات وأصبح مكانه فارغا!!
مقهى نجيب محفوظ
كان هذا المقهى من الأماكن التي ارتادها نجيب محفوظ، وكان يسمى في البداية بـ”خان الخليلي”، ولكن بعد حصول الأديب الراحل على جائزة نوبل عام 1988، استأذن أصحاب المقهى الأستاذ بإطلاق اسمها عليه ووافق محفوظ وحضر الافتتاح بعدها بعام.
المحطة الأخيرة
انتهت الرحلة. ورحل عميد ابرواية العربية عام 2006، بعد 94 عاما قضاها محبا للحياة، تاركا إرثا أدبيا تتعلم منه الأجيال وتتشرب منه محبة التاريخ والوطن.
يسكن الأستاذ الآن في سلام بصحبة زوجته التي لحقته بعدة أعوام في مقبرة هادئة تقع على طريق “مصر – الفيوم”.
نرشح لك – في ذكرى رحيله.. مواقف “في حضرة نجيب محفوظ”