نستكمل عرض كتاب “وطني مصر”.. الذي بدأناه لاحقا، وهو سلسلة حوارات متصلة أجراها الكاتب محمد سلماوي مع أديب مصر العالمي نجيب محفوظ على مدى أربعين ساعة، صدرت الطبعة الأولي العربية منه عن دار الشروق في عام 1997، وفي الحلقة الثانية والأخيرة نستعرض مقتطفات من حديث أديب نوبل، حول الحياة السياسية لمصر، وشهادته على التحولات التي شهدتها.
نرشح لك: في ذكرى وفاته.. نجيب محفوظ يحدثكم: “وطني مصر”.. (2-1)
يحلل أديب نوبل مشهد العالمين العربي الإسلامي فيقول: إذا نظرنا للوضع القائم في العالم الإسلامي نجد أن هناك شعورا عاما بخيبة الأمل المتزامنة مع أزمة اقتصادية طاحنة، وغياب للحرية السياسية، فبعد معارك التحرر حصلت الكثير من دول العالم الثالث علي استقلالها، وبدأت تجرب مختلف طرق التنمية وعرفنا في العالم العربي القومية العربية والتنمية الاشتراكية، لكن بانتهاء عقد الستينات بدأ كل ذلك يهوي أمام أعيننا، فالقومية العربية، تلك الأيديولوجية العلمانية التي وحدت بين المسلم والمسيحي في العالم العربي انهزمت في حرب يونيو 1967 خلال ست ساعات فقط، والفكر الاشتراكي كله بدأ يتداعي في السبعينات والثمانينات، حتى انهار تماما، فإلي أين نتجه؟ من الطبيعي أنه في ظروف الأزمة يعود الإنسان إلي جذوره المطلقة التي لا يمكن أن تتهاوى مع الزمن مثل كافة الأفكار العلمانية الأخرى التي تهاوت.
ويبدي أسفه لظاهرة “الإرهاب” قائلا: إنني أشعر بالأسف أيضا من أن شابا من شبابنا يكرس حياته للمطاردات والقتل، فيُطارد ويقتل بدلا من أن يكون في خدمة الدين والعلم والوطن.
نرشح لك: أبرز 20 صورة في حياة نجيب محفوظ
وكشاهد على العصر، يسجل أديب نوبل عن ثورة يوليو 1952، قوله: لقد كانت ثورة يوليو 1952 من ناحية الكرامة الوطنية شيئا عظيما جدا، فهي في ذلك امتداد للحركات الشعبية التي كنت أشاهدها وأنا طفل، وقد مكنها الزمن من تحقيق انتصارات أكثر وأكبر، ولكن من حيث علاقتها كنظام حاكم بالشعب فقد كانت في رأيي استمرارا للنظام الملكي، ولم أستطع أن أغفر لها ذلك.
فقد قضت علي النظام الملكي البائد، وأسست نظاما جمهوريا حديثا وقضت علي الفساد السياسي والاجتماعي الذي كان سنة الحياة العامة في البلاد في ظل حكم الملك فاروق، وأقامت نظاما جديدا يعلي من قيمة العمل والتعليم والتقدم بدلا من النسب والمال، والتخلف لم يقف تأثيره عند حدود مصر فقط وإنما امتد ليشمل سائر الوطن العربي، فكيف كانت الثورة امتدادا للنظام الملكي؟
كان ذلك في جانب محدد وهو الالتزام بالدستور، فإن السمة الأساسية للنظام الملكي القديم كان عدم الالتزام بالدستور، وهو ما جعل القوي الوطنية في حالة صراع مع الملكية، حيث كانت تطالب بأن يلزم الملك حدوده ويحكم البلاد وفق الدستور، وأنا أرى أن هذا الجانب في ثورة يوليو لم يختلف كثيرا عما كان في السابق.
نرشح لك: تعرف على 24 كاتبة مصرية تحت الثلاثين
لقد حققت ثورة يوليو الكثير كما قلت، بل حققت ما لم تستطع تحقيقه الحركة الوطنية المصرية طوال تاريخها من الاستقلال في الخارج إلي مجانية التعليم في الداخل، ولكن خلافي معها كان في علاقتها بالشعب في نظام حكمها.
ولكنه مع ذلك يحلل العلاقة بين ثورة يوليو والديمقراطية، فيقول: حين تتأمل ثورة يوليو تجد أن سمة الدكتاتورية لحكم الثورة كانت هي السبب وراء كل النكسات التي لحقت بنا، ولو أننا استبدلنا الديمقراطية بالدكتاتورية لكانت هزيمة حرب 67 مع إسرائيل لم تحدث، ولوفرنا الملايين التي أنفقت باليمن بلا مبرر، لأنه كان يمكن أن يكون هناك برلمان قوي ورأي معارض يبصر بالمخاطر.
ويضيف الأديب العالمي حول طبيعة علاقة الثورات البشرية عموما بالديمقراطية، أن التاريخ لم يعرف ثورة قامت بالديمقراطية، حتى ليبدو أن الطريقة الوحيدة لإحداث التغييرات العظيمة التي تأتي بها الثورات لا يمكن أن تتحقق إلا قسرا، ولو تركت الأمور للمداولة البرلمانية لاستمرت الأمور علي ما هي عليه، ولحدث قدر من الإصلاح لا يرتقي ليكون ثورة جذرية تنقل البلاد من عصر إلى عصر.
إن الثورات تقوم كما تقوم لكنها في النهاية بعد أن تحقق أهدافها يجب أن تتحول إلي حكم المؤسسات، أما إذا استمرت وسائل القوة في يد واحدة فقط فهذا قد يجهض أهداف الثورة ذاتها.
ويرد محفوظ على الرأي القائل بأن الديمقراطية لا تصلح نظاما سياسيا في مصر في ظل الأمية السائدة والتي تصل نسبتها إلي ما يقرب من 70%، فيقول: تلك حجة الديكتاتوريين، فهم يقولون أن الشعب المصري لم يحصل علي شهادة الثانوية العامة بعد لكي يحصل علي الديمقراطية، وإنه ينبغي أولا الاهتمام بالتعليم والتقدم إلي أن تصل البلاد إلي مرحلة تستحق معها الديمقراطية، لكن تلك مغالطة، فالشعوب لا تصل إلى مرحلة التقدم التي يتحدثون عنها إلا عن طريق الديمقراطية، في ظل حكم شعبي يهدف إلي تقدم الشعب والاتقاء به، والدليل علي ذلك أن جميع الشعوب التي حصلت على الديمقراطية حصلت عليها وبها أغلبية أمية، والكثير منها تغلب علي الأمية في ظل الأمية الديمقراطية، إن الديمقراطية هي الحريصة علي التعليم، أما الحكم الاستبدادي فليس من مصلحته نشر التعليم والتنوير، وإزاء هذا الرأي الذي تطرحه عليّ أقول لك إنه إذا كان هناك هذه النسبة المرتفعة من الأمية فينبغي الإسراع بالديمقراطية فهي الباب إلي الثقافة والتعليم والأهلية.
نرشح لك: صور.. رحلة البحث عن نجيب محفوظ
ويقارن صاحب “الثلاثية” بين جيلي الثورتين، فيقول: ربما كان أحد الفوارق بين جيل ثورة 1919 وجيل ثورة 1952، أن ثورة 19 نشأت في الأحياء القديمة وكانت تطالب بالحرية والاستقلال، أما ثورة يوليو التي حققت الاستقلال منذ سنواتها الأولى فقد انصرفت إلي تأسيس الدولة الحديثة، كما أن سعد زغلول هو ابن المجتمع الريفي القديم، أما جمال عبد الناصر فهو ابن المدينة.
ويشرح صاحب “ثرثرة فوق النيل” الهزة التي تعرض لها المجتمع المصري عقب نكسة 1967، فيقول عنها: كانت تلك مرحلة أصبنا فيها على المستوى السياسي بيأس شديد، وبخيبة أمل لم تكن متوقعة بأي حال من الأحوال، فقد كنا معتمدين على قوتنا، وعلى قوميتنا، وعلي مذهب اشتراكي جعلنا علي صداقة وثيقة بثاني أكبر أمم العالم، وكان ذلك يشكل منظومة معرفية اهتزت بشدة بعد هزيمة 1967، وظهر أن تلك الاقتناعات التي عشنا عليها سنوات لم تنفعنا حين وضعت في الاختبار، وهكذا تغيرت معرفتنا بهذه الاقتناعات الثلاث، حيث اتضح أن القوة التي كنا نتصور وجودها باعتبارها أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط غير موجودة، وإيماننا بالقومية العربية لم ينجدنا في محنتنا، أما علاقتنا بالاتحاد السوفيتي فقد اكتشفنا أنه هو أيضا يهاب مثلنا.
لقد كانت تلك المرحلة مرحلة مراجعة لمعارفنا الأساسية، في ظل الحقائق التي تبدّت أمامنا واضحة وضوحا مخيفا، وقد بدأ يحل عندي بعد ذلك محل القومية بمفهومها الرومانسي التابع للقرن التاسع عشر مفهوم آخر حديث أكثر عملية وبراجماتية يعتمد علي تحقيق المصالح المشتركة بين الأقطار العربية، متخذة من رباط اللغة المشتركة والثقافة والدين وسيلة لتحقيق ذلك.
والقوة التى تهاوت أوهامها أمامنا جعلتني أؤمن أكثر بالسلام كوسيلة أكيدة لتحقيق التقدم والرخاء، أما الاشتراكية فقد أصبحت أؤمن منذ ذلك الوقت وقبل أن يسقط الاتحاد السوفيتي بأن أي طريق يؤدي إلى العدالة الاجتماعية هو طريق مقبول حتى وإن جاء من الرأسماليين، ففي الكثير من الدول الرأسمالية يوجد من الخدمات العامة ما عجزت عن تقديمه بعض النظم الاشتراكية.
إن ما سقط حقيقة في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية منذ عهد قريب سقط عندنا قبل ذلك بعقدين من الزمان، وهو لم يكن مجرد سقوط إحدى النظريات السياسية ولكنه كان في الحقيقة سقوطا لـ(لدوجما) فليس هناك اشتراكية جيدة ورأسمالية سيئة، لكن هناك أهدافا سامية لا اختلاف عليها وكل من استطاع تحقيقها فهو جيد.
لكن ما إن وصلنا إلى تلك المعرفة حتى تبدي أمامنا مرة أخرى عدم المعرفة، وذلك في المعطيات الجديدة للعصر الجديد، وأصبح علينا أن نعرف ما هو النظام العالمي الجديد؟ وما هي اتفاقية الجات؟ وأين سيكون موقعنا منها؟ وهل ستفيدنا أم ستضرنا؟ وهل نملك حرية الحركة إزاء هذه المعطيات الجديدة أم إنها مفروضة علينا شئنا أم أبينا؟
وعلي مستوى السلام فقد اتجهنا إليه بشكل واضح، وقام الرئيس السادات بمبادرته المعروفة عام 1977، ولكن هل إسرائيل ستستطيع الوصول إلي مرحلة التعايش مع هذا السلام هي الأخرى، أم إن ما تسعي إليه مجرد نوع من السيادة في المنطقة؟ أي هل ستنجح إسرائيل في أن تصبح دولة شرق أوسطية تنتمي لمحيطها الجغرافي أم إنها ستظل أشبه بالقلعة المنعزلة كالقلاع الصليبية التي قامت في نفس المكان في العصور الغابرة ثم ما لبثت أن غلبتها حقائق المنطقة التي زرعت بها، هذا أيضا مما لا نعرفه.
هناك بالطبع من يدعون المعرفة من الآن فيقولون إن إسرائيل إلي زوال أو إن السلام والتعاون سيحلان بينها وبين كل جيرانها، لكني أعتقد أن تلك المعرفة سابقة لأوانها وهي متأثرة بعواطف سابقة.
وأنا أفضل أن أترك التجربة تفصح عن نفسها، ففي مثل هذه المسائل فإن المعرفة لا تأتي إلا من التجربة والمعايشة، والمعرفة السابقة لا يجب أن تؤثر علينا في ذلك حتى لا تفسد التجربة.
وفي معرض الحديث عن إسرائيل والسلام، يؤكد الكاتب محمد سلماوي أن للأستاذ نجيب محفوظ وجه نظر ثابتة تدعو إلي السلام مع إسرائيل، وتحاول إيجاد أسلوب آخر للتعامل معها غير الحرب، وقد عرضه هذا الرأي لهجوم شديد علي مستوي العالم العربي كله، وهنا يقول الأستاذ:
لقد كان هجوما مؤلما حقا لأنه يتعلق بشرفي الوطني ذاته، فحين أعبر عن رأي سياسي فإنني أتوقع أن يقول لي أحدهم: أحسنت، وأن يقول لي عشرة آخرون: أسأت، أو يقال لي: دعك من السياسة وابق في أدبك، كل هذا مقبول مني لكن حين أنادي بالسلام والتفاوض فيقال إنني عميل إسرائيلي، فهذا فيه ظلم لا يرضاه أحد، فلقد كان يجيئني هؤلاء ويقولون لي نحن نعلم أنك لست ما نقوله فيك، لكننا نقول ذلك حتى نردع الآخرين.
وعن إمكانية اندماج إسرائيل في المنطقة وصيرورتها جزءا منها أو استمرار عزلتها، يقول محفوظ: قد نظل نناقش في هذا الموضوع فتقول أنت رأيا، وأقول أنا رأيا آخر، ونتشاجر، وقد نتضارب، لكن تظل التجربة الفعلية بعيدة عني وعنك، إن ما سيحدد الرد علي سؤالك ليس النقاش، وإنما التجربة العملية، فهي وحدها التي ستظهر حقيقة الأمر، فإذا تعاملت إسرائيل بالحسنى كان بها، وحتى إذا ظهر أن كل ما قيل لنا عن حسن نيات إسرائيل هو زيف وخداع فلن نكون قد خسرنا الكثير، ألسنا نحن الذين وقفنا ضد الصليبيين وطردناهم بلا رجعة من جميع الأراضي العربية؟ ألسنا نحن الذين وقفنا ضد الاحتلال منذ مائة عام، وتحدينا أكبر الإمبراطوريات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وحصلنا علي الاستقلال، وحافظنا على شخصيتنا وخصوصيتنا وعقائدنا، فهل بعد ذلك نخشى أن نُمحى بواسطة إسرائيل؟ إن من يقولون بذلك هم عبدة إسرائيل وإن كانوا لا يعلمون.
وعن مشاعره في وفاة عبد الناصر واغتيال السادات، يقول مؤلف “أمام العرش”: لقد كنت أحد المختلفين مع نظام حكم عبد الناصر، وكنت من المعارضين الشرفاء في الكثير من رواياتي، خاصة ما كتبته بعد نكسة يونيو 1967، وقد قبل عبد الناصر هذه المعارضة ولم يصادر عليها لا في كتاب ولا في فيلم، وفي الوقت نفسه أنا أول المعترفين بمآثره وما فعله للمجتمعين المصري والعربي، لكن في لحظة وفاته لم يكن أمامي إلا مآثر هذا الزعيم العظيم. وعندما عرفت بمقتل الرئيس السادات دعوت الله ألا يكون من قام بهذا العمل أحد الأقباط، فقد كانت هناك في ذلك الوقت اضطرابات طائفية ما بين المسلمين والأقباط غريبة تماما علي مجتمعنا، لكنها كانت تهدد أساس بنيانه، ولا شك أن الباعث علي الاغتيال كان سياسيا لكن الفاعل كان يمكن أن يكون مسلما أو قبطيا، والحقيقة أننا كنا جميعا قد عتبنا علي السادات في أيامه الأخيرة، حيث كانت انفعالاته قد وصلت إلي أبعد مدي، ولم يعد يتحمل أية خلافات معه في الرأي ووصل به الأمر إلى أن أودع المجتمع السياسي كله تقريبا في السجن، لكني مع ذلك كنت مدركا لمآثره الكثيرة، ولم أكن أحب أن ينتهي صاحب حرب أكتوبر المجيدة، وصاحب التعددية الحزبية، مثل هذه النهاية المفجعة وفي نفس يوم عرسه، يوم الاحتفال بذكري حرب أكتوبر.
ويعبر أديب نوبل العالمي عما يتمناه لمصر، قائلا: بالنسبة للبلد أتمني أن تستقر مصر سياسيا فلا تتغير فيها السياسات وتتبدل ما بين فترة وأخرى حتى تنقلب من النقيض إلى النقيض، وأن تتوالى السلطة فنعرف من الذي سيأخذها حين يحين الوقت، وأن يكون للشعب دور في ذلك فيحاسب من يأتي بهم إلي الحكم، ويصبح هناك في البلد شبه وحدة وتضامن متمثل في مشاركة أهل هذه الرقعة من الأرض في تحمل مسئوليتها، إن أهم ما أتمناه للبلد هو الاستقرار السياسي.
بعد ذلك أتمني أن يأتي اليوم الذي يقول فيه الخبراء الاقتصاديون إن مشكلتنا قد حلت وليس هناك خوف من أزمات أو انهيارات اقتصادية.
إن الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي سيتبعهما أشياء كثيرة منها تقليل نسبة البطالة وانحسار ظاهرة الإرهاب، وعندئذ تصل البلد إلى مرحلة الصحة النفسية.
هذا لا يعني أن جميع السلبيات ستختفي فهذا خيال، فقد يكون هناك قدر من الفساد، وقد يكون هناك قدر من الفقر أو الاضطراب لكن في ظل الاستقرار الاقتصادي فسيكون بمقدورنا تحمل نصيبنا من تلك السلبيات دون عناء كبير.