عبده وازن
نقلاً عن الحياة
فضيحة الفضائح في الترجمة العربية لا تتمثل في ركاكة فعل الترجمة ذاته ولا في الأخطاء الجسيمة أو الضئيلة التي يرتكبها المترجمون سواء لغوياً أم في تفسير المعاني وإدراك التراكيب النحوية، بل في خيانة النص المترجم ذاته ومبدأ الترجمة التي توصف أول ما توصف في كونها حواراً حضارياً وثقافياً بين لغة ولغة وبين قراء وقراء. والخيانة المقصودة هنا هي مراقبة النص المترجم والحذف منه، مراعاة لما يسمى قيماً أخلاقية ورضوخاً لشروط السلطات المتعددة التي ترخي بظلالها على النصوص والعقول. وغالباً ما ينتبه قارئ الترجمات العربية إلى أن مقطعاً هنا حذف أو جملة اقتطعت أو مفردة استبدلت بأخرى من غير أن يقدّر تماماً ما هي هذه المحذوفات ولو تهيأ له أن طبيعتها سلبية أو صادمة ومنافية للأخلاق العامة بحسب المقولة الشائعة. ويعجز القارئ عن تحديد ما حذف إذا لم يكن يملك الكتاب الأصل في لغته الأجنبية. قد تكون هذه الرقابة «الاقتطاعية» و «الحذفية» الرائجة علانية أو سراً، محنة محن الترجمة العربية وأشد أزماتها تفاقماً. مرة، عمد مترجم مصري إلى حذف مقاطع من ترجمته لرواية «العاشقات» للكاتبة النمسوية ألفريده يلنيك، الفائزة بجائزة نوبل. ومرة، تجرأت مترجمة لبنانية على حذف فقرات من كتاب الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت «شذرات من خطاب عشقي»، ما جعل النص ناقصاً ومبتوراً. هذه الرقابة «الأخلاقية» التي ما برحت تمارس في دول عربية قد ينتبه إليها القارئ وقد لا ينتبه. وكثيرة هي الأسماء الأجنبية التي تراقب أعمالها خلال ترجمتها إلى العربية وتحتاج فعلاً إلى لجنة تحر ورصد. المترجم يراقب والمصححون يراقبون والناشرون يراقبون… هكذا يقدم هؤلاء خدمة جليلة لأجهزة الرقابة العربية ويوفرون عليها الكثير من الجهد. إنهم يستبقونها في الحذف والاجتزاء. سأل صحافي إحدى المترجمات المراقبات عن أمر الحذف المسبق فأجابته: هل يمكنك نشر تلك الفقرات الإباحية في صحيفتك؟ جواب غاية في السذاجة. فإن كان المترجم عاجزاً عن ترجمة مقاطع جريئة من كتاب بين يديه، فلماذا يقدم على ترجمته محملاً ضميره تبعة الحذف الذي تمارسه الرقابة بلا هوادة؟
هذه العادة السيئة باتت رائجة عربياً ولم يعد كثيرون من المترجمين العرب أوفياء لرسالتهم القائمة أساساً على الحوار بين لغة وأخرى، وبين ثقافة وأخرى. وقد اقتطع مترجمون صفحات من كتب أقبلوا على تعريبها غير مبالين بالكاتب الذي يترجمونه ولا بالقارئ الذي لا بد من أن يحاسبهم يوماً.
المترجم المصري برر فعلته الشنيعة بـ «عذر أقبح من ذنب»، فهو يظن أنه أسدى خدمة للقارئ في حذفه ما رآه «مبتذلاً» و «مثيراً للقرف» كما قال حرفياً. لقد شوه النص حفاظاً منه على الأخلاق العامة والقيم وسواها من «المقولات» التي تلجأ إليها الرقابة عادة وتحتمي وراءها لتمارس السلطة الموكلة إليها.
المستغرب جداً في الأمر، أن كثراً من هؤلاء المترجمين – الرقباء يحملون شهادات أكاديمية، ما يعني أن من المفترض بهم أن يكونوا منفتحين وأحراراً وغير متزمتين… وإذا كان هؤلاء يخشون النصوص الجريئة ويمارسون سلطة الرقابة، فما تراه يكون الأمر مع الرقباء الحقيقيين الذين يتعاملون مع النصوص تعاملاً بوليسياً وديكتاتورياً. ماذا يمكن القول عن الرقباء المتسلطين الذين خولوا أنفسهم الحق في الحكم على نصوص غالباً ما يعجزون عن قراءتها نظراً إلى عمى بصيرتهم وإلى الظلام الذي يلف عقولهم؟
ما أسوأ أن يسبق المترجم الرقيب الرسمي ويخفف عنه عبء «القراءة» و «المطاردة»، وأن يحل محله حاملاً القلم بيد والمقص بيد أخرى. يظن هذا المترجم أنه هكذا يبيض صفحته مع الرقابة والسلطة أو السلطات، ويحوز رضا المؤسسات التي يعمل فيها أو يعمل لها. لا يخون هذا المترجم نفسه فقط، بل النص الذي يعربه، وصاحب النص والقارئ، عطفاً على خيانته لمبادئ الترجمة وتقاليدها. تصبح الترجمة آنئذ فعل خيانة عظمى يستحق مرتكبها عليها عقاباً وأيما عقاب. ويصبح المترجم مزوراً لا يمكن أن يؤتمن على نصوص الآخرين.
ترى من يقرأ ألفريده يلنيك أو رولان بارت أو جان بول سارتر الذي حذف بعض المترجمين العرب مقاطع من أعماله سراً أو مارغريت دوراس أو دانتي وسواهم؟ طبعاً، ليس الأطفال ولا المراهقون هم من يقرأون هؤلاء الكتّاب! فمم يخشى المترجمون الحريصون على الأخلاق العامة الذين فاتهم أنهم ليسوا وحدهم من يجيدون اللغات الأجنبية، وأن الإنترنت تعمم كل ما يمنع من نصوص في العالم؟
قد تكون آفة «الرقابة» هذه أخطر ما تعاني حركة الترجمة في العالم العربي من «أمراض». إنها تتعدى وظيفة الترجمة وتدل على أزمة في الثقافة العربية ذاتها. ألا يكفي هذا الرقيب الذي يسيطر على أقلام الكتاب وعلى مخيلاتهم في أحيان؟ ألا يكفي ما يمارس من حذف ومنع؟ يخطئ هؤلاء المترجمون كثيراً حين يمضون في هذه ‘اللعبة’ الخطرة. إنهم يبررون، من غير أن يدروا ربما، الرقابة ويمنحونها حالاً من الشرعية المزيفة. هذه حقاً مشكلة من المشكلات الكثيرة التي تواجه حركة الترجمة العربية وهي أشدها استفحالاً لأنها تخفي وراءها أزمة فكرية ووجودية، لا يبدو سهلاً تجاوزها.
لعلها أبشع الرقابات هذه التي يمارسها المترجمون، مدعومين من الناشرين طبعاً، على نصوص «الآخر» التي يترجمونها، وما أبشع المترجم عندما يصبح رقيباً على النصوص التي عوض أن يحاورها، يقتطع منها ويشوهها.
نرشح لك – قريبا.. الشروق تصدر “چو العظيم” لـ أشرف الخمايسي