نقلًا عن المصري اليوم
طارق الشناوي
أنا واحد من ملايين عشاق ومجاذيب ودراويش ليلى مراد، من علامات الجنون أنى أصحو على صوتها، وأنام على صوتها، وبين النوم واليقظة لا يفارقنى صوتها ولا ملامحها، دائما أتخيل أننى أشاركها بطولة الأفلام بعد أن أزحت أنور وجدى جانباً وتزوجتها، وليه لأ؟، فأنا مثله تماما، أصبح لدىّ مع الأيام أيضا كرش يتحدى مقدرة أى بنطلون على الانضباط، وأسعى جاهدا للحصول على لُدغ، يتمرد بقوة على ياقة القميص!.
فى شهر فبراير الماضى، أطفأنا لمعشوقتى 100 شمعة، إلا أننا لانزال نعيش فى مئويتها، ولدىّ الكثير لأحكيه لكم عنها، دعونا هذه المرة نصحح أكبر معلومة ارتبطت بها، وهى أنها اعتزلت الفن حفاظا على صورتها الذهنية، بينما الحقيقة أنها ظلت حتى مطلع الثمانينيات تُسجل أغنيات لعدد من الإذاعات المصرية والعربية، ولم تمانع فى تصويرها لو وجدت المقابل المجزى.
ما «شفرة» الأسطورة ليلى مراد؟ ممكن أن تجد الإجابة فى تلك الواقعة، حيث إن فى الإذاعة تسجيلا نادرا تمتزج فيه أصوات ليلى وعبدالحليم ومنير مراد وآخرين لم أستطع التيقن منهم، السهرة فى منزل الملحن شقيقها الأصغر منير، ممسكا بالعود، ويبدأ «عبدالحليم» فى تحفيزها، ويغنى فى البداية «سنتين وأنا أحايل فيك» وتردد بعده ليلى، ثم يطلب منها «عبدالحليم» أن تغنى «ليه خلتنى أحبك» كعادتها تتردد، فيغنى عبدالحليم «ليه خلتنى أحبك/ لا تلومنى ولا أعاتبك/ فين أهرب من حبك/ روح منك لله/ بدموعى الحيرانة/ وعيونى السهرانة/ بدعيلك آه يانا/ روح منك لله»!.
على الفور، تلتقط «ليلى» الميكروفون وتغنى نفس الكلمات مع تغيير طفيف، وتحيل «فين أهرب من حبك» إلى «فين تهرب من ذنبك» و«بدعيلك آه يانا» تصبح «بدعيلك بأمانة».. فيضطر «عبدالحليم» للالتزام ويغنى مرة أخرى طبقاً لما تريده «ليلى»!.
لا أحد بالطبع سيدرك لماذا غيرت «ليلى» ولماذا التزم «عبدالحليم»؟.. الكلمتان تشكلان أهمية قصوى ونقطة محورية فى مسيرتها ومصيرها على خريطة الغناء، الواقعة حدثت عام 1955، وذلك مع بداية إحساس «ليلى» بأنها لم تعد «ليلى»، سجلت هذه الأغنية ضمن أحداث آخر أفلامها «الحبيب المجهول»، وعمرها 37 عاماً، فى عز وهجها الإبداعى، فوجئت «ليلى» بأن لجنة النصوص تعترض على كلمتين وهما «ذنبك» اعتبروها «أبيحة»، والكلمة الثانية «بدعيلك بأمانة» قالوا كيف تدعى بأمانة وهى تقول بعد ذلك (روح منك لله)، فأحالها مأمون الشناوى إلى «آه يانا»، لم يدركوا المعنى الشاعرى الكامن وراء هذا التناقض الظاهرى!.
علمت «ليلى» أن الإذاعة المصرية تصر حتى تسمح بتداول الأغنية على تغيير الكلمتين، فرفضت الإذعان وقالت لكمال الطويل: عندما تغنى «ليلى مراد» لا أحد يراجعها.. ومنعت الإذاعة الأغنية بصوت «ليلى» وأسندها الطويل إلى «نجاة»، فأصبحت واحدة من أشهر الأغنيات التى ساهمت فى تأكيد مكانتها كنجمة استثنائية فى عالم الغناء.
كما أن فيلم «الحبيب المجهول»، الذى لعبت بطولته ليلى مراد لم يحقق النجاح الجماهيرى المرتقب، فلم يعد أحد يتذكر الأغنية إلا بصوت «نجاة».
علىّ أن أذكر لكم أن تلك السهرة مع «عبدالحليم» كانت بمثابة محاولة لكى يزيح عنها الطعنة الغادرة الثانية التى تلقتها من عبدالحليم حافظ مباشرة.. «ليلى» تعتقد أنها حتى تلك السنوات لاتزال هى الحُلم الذى يرنو إليه كل الملحنين والشعراء، وبالفعل عرض عليها «بليغ حمدى» فى مطلع حياته عام 1956 أغنية «تخونوه»، أعجبت الأغنية «ليلى» وطلبت منه واحدة أخرى، وأجرت عشرات من البروفات فى معهد الموسيقى العربية، وقبل تسجيلها بأربع وعشرين ساعة فقط اكتشفت أن «بليغ حمدى» قد باع الأغنية إلى «رمسيس نجيب» منتج فيلم «الوسادة الخالية» ليغنيها «عبدالحليم».. حاول «بليغ» الاعتذار، وعزّ عليها وقتها أن تعلى صوتها بالغضب، لتتلقى فى عامين هزيمتها أو طعنتها الثانية.. والغريب أن كلمات الأغنية التى كتبها «إسماعيل الحبروك» وكأنها تنكأ الجرح «تخونوه وعمره ما خانكم»!.
كانت «ليلى» ولاتزال للآن- لو حسبت فارق القوة الشرائية- هى أغلى مطربة عرفتها الشاشة، تحصل على 15 ألف جنيه فى الفيلم، وحتى يصبح للرقم دلالة، أقول لكم إن «فاتن حمامة» النجمة الأولى على الشاشة كانت تحصل على أجر 5 آلاف جنيه، «ليلى» ثلاثة أضعاف «فاتن»!. إلا أن الزمن لا يبتسم طول العمر، بدأ الضوء يخفت، وتحديداً مع نهاية عام 1952، أى بعد قيام ثورة يوليو بأقل من خمسة أشهر، عندما أصابها سهم طائش قاتل مع قيام ثورة فتية تملك الكثير من الأسلحة، لكى تزيل كل من يعترض أو حتى تتشكك فى ولائه، التهمة هى أن «ليلى مراد» تبرعت لإسرائيل بـ50 ألف جنيه مصرى من أجل دعمها عسكرياً، وبالطبع لم يكن يخفى على أحد أن اليهود المصريين بعد 48 تقلص عددهم، بعضهم سافر إلى فلسطين قبل هذا التاريخ استعداداً لإعلان الدولة، من بينهم بعض أقارب «ليلى مراد»، كانت النظرة لليهودى أنه مصرى إلا قليلاً وأحيانا إلا كثيراً. «ليلى مراد» فى عام 1946 كانت قد أشهرت إسلامها، أى قبل أحداث 48 بعامين، وكأنها تخشى من أى سوء فهم قادم، ربما كان «أنور وجدى» الذى كان قد تزوجها قبل ذلك التاريخ بأشهر قليلة هو الدافع المباشر لإعلان إسلامها، معتقدا أن الإسلام ربما يقربها أكثر للجمهور. بينما مفردات الزمن فى تلك السنوات تؤكد أن المصرى لم تكن تعنيه خانة الديانة، أو أن الدين فى تلك المرحلة الليبرالية التى عاشتها مصر كان يشكل نقطة محورية أو خلافية.
«ليلى مراد» كانت هدفاً لتلك الشائعة التى تقطر خِسة بعد أن فجرها «أنور وجدى» انتقاماً منها، لأنها أصرت على طلب الطلاق، وإن كان أنور بعد ذلك تنكّر تماما لهذا الموقف، بعد أن قرر مكتب المقاطعة العربية مقاطعة شراء كل أفلام «ليلى مراد»، وعدد كبير منها إنتاج «أنور وجدى»، أى أن سهم الشائعة أصابه فى مقتل، فسارع هو بالنفى.
تدخلت أجهزة المخابرات وأثبتت التحقيقات براءة «ليلى»، وتعرّفت فى تلك السنوات على أحد ضباط الصف الثانى فى الجيش المصرى الذين قاموا بالثورة «وجيه أباظة»، وتزوجت منه وأنجبت ابنها الأول «أشرف».
هل نسيت «ليلى» حلم الفن؟.. فقدت الكثير من وهجها، وازداد وزنها بعد الحمل والإنجاب، إلا أنها لم تعتزل، والحقيقة أنها حاولت أن تعيد فتح الجسور مجددا فى مطلع الستينيات مع معشوقتها السينما، من خلال مؤسسة السينما المصرية، وعدوها ثم خانوها وعمرها ما خانتهم، إلا أنها لم تعتزل ولم تسع لكى تحافظ على صورتها الذهنية القديمة كما يرددون دائما.
لست وحدى من «مجانين ليلى»، عنبر «المصرى اليوم» ملىء بالكثير منهم، تابعوهم فى الصفحات التالية!.