نقلًا عن الحياة اللندنية
من جريمة قتل وقعت قبل أكثر من سبعين عاماً، يلتقط أشرف العشماوي ذؤابة روايته «سيدة الزمالك» (الدار المصرية – اللبنانية، القاهرة) لينهض برواية ظاهرها البنائي النص البوليسي وباطنها الرؤيوي قراءة تأريخية عميقة لتحولات مصر الكبرى في نحو سبعين عاماً، تمتد من عشرينات القرن العشرين وحتى العام 1990، ذلك العام الفارق، والذي فقد فيه نعش «القومية العربية» مسماره الأخير عملياً، بالغزو العراقي للكويت. لكن العشماوي قرر أن يستبعد السارد الأوحد، كأنما يستبعد فنياً «الديكتاتور» الذي تنهض روايته لتدين مناخاته برهافة، لتصبح «سيدة الزمالك» سرديةً بلا طاغية يديرها، موزعةً، في المقابل، على خمسة أصواتٍ ساردة يتفرق عليها دم الحدث الروائي، بالضبط مثلما تفرق دم قتيل الرواية على أيدي خمس ذوات. يُقتل «سالمون شيكوريل»، الثري الإيطالي الشهير ومالك المحلات الشهيرة الموسومة باسمه، على يد خمسة أشخاص: أربعة من مستخدميه الأجانب، انضم إليهم مصري بعد أن تلصّص على اتفاقهم في أحد بارات القاهرة وزجّ بنفسه كشريك في الخطة، ووضع نفسه كحجر عثرة في الطريق، طارحاً صفقته: إما أن يقبلوه شريكاً خامساً أو يشي بهم. هذا هو ملخص الحبكة والذي لن يفي بالتأكيد ببناء الرواية وتشعباتها وحبكاتها الفرعية، لتصل إلى 375 صفحة. تُدير الرواية نفسها، إن جاز التعبير، من دون ساردٍ عليم كُلّي المعرفة، لتقدم التاريخ بوصفه «مزق» العاديين، المنسيين والبعيدين من ضوء الأبطال وصانعي التاريخ، وليس بتماسك «المؤرخ» القابع دوماً تحت شمس السُلطة.
نرشح لك: في ذكرى وفاة خيري شلبي.. هل تطول غيبوبة “فاطمة تعلبة”؟
بذكاء، نهضت «سيدة الزمالك» على رتق فراغ في ثوب القضية «الحقيقية»، إنه الفراغ الذي يملأه التخييل ليعيد تأويل التاريخ، التاريخ الذي يعجز أحياناً عن رأب صدوعه فيبقى علامة استفهام عالقة. تاريخياً، عُثر على الأربعة الأجانب وقُدِّموا للمحاكمة، لكن ظل الخامس غير معروف ولم يُستدل عليه، وكان هذا الخامس، للمفارقة، المصري الوحيد بينهم. ظل مختفياً، للأبد على ما يبدو، إلى أن قبضت عليه رواية العشماوي، عثرت عليه في مخبأ المخيلة ليصبح هو «عباس المحلاوي» محرك هذه الرواية، و»المحرض» على وجودها. بنيةٌ أقرب ما تكون الى محاكاة الحدث الذي تنهضُ على شرفه، ففيما يُقتل شيكوريل على يدِ خمسة أشخاص، تروى الرواية بأصوات خمسة ساردين، كأن السرد صورة «أليجورية» للجريمة، وكأن جثة الحكاية انعكاس لجثمان القتيل في مرآة السرد. لكنْ، ثمة صوت واحد مشترك بين أصوات القتل الخمسة وأصوات الحكي الخمسة، سيصل بين الواقعة التاريخية وصورتها الفنية، هذا الصوت هو «عباس المحلاوي»، محاطاً، مثل جزيرة، بأصوات «زينب»، «ناديا»، «طارق المصري»، و»مراد الكاشف». عاش صوت «عباس» فيما أُعدمت أصوات القتلة الآخرين، وكأنه هرب بفعلته، فقط، ليكون قادراً على تحويلها إلى حكاية. من هنا، تطرح «سيدة الزمالك» أحد أشد تصوراتها الرؤيوية خطورة، وهو إزالة وهم «القداسة» عن التاريخ، لمصلحة التعامل معه بوصفه «حكاية». إنها رسالة ضد فكرة «الأيديولوجيا» التي اتخذت من التاريخ ملعباً أثيراً لها، تغدو أي محاولة لتحريره من النظرة الاتفاقية مساساً بالمقدس. «سيدة الزمالك» تعيد تفكيك التاريخ عبر واقعة «حبلى» بالعناصر الجوهرية التي يمكن من خلالها قراءة واقع «الحراك» المصري في سبعين عاماً تنتهي في العام 1990، العام المحوري عالمياً ببدء انهيار الكتلة الشرقية إيذاناً بانتهاء الحرب الباردة، وعربياً بغزو للكويت، وهو ما سيتلوه تغير كلي في خارطة المنطقة لا يزال يواصل حراكه إلى الآن. لا تحضر هذه القراءة «الشمولية» من إعادة تدوير للتاريخ أو باتكاء على المقولات التي كان من شأنها أن تحيل «سيدة الزمالك» رواية إنشائية كرتونية. ليس من السهل فنياً تعميق واقعةٍ فنية عبر خمسة أصوات تتناوب السرد. ومما يضاعف من الصعوبة الفنية، أن الأصوات الخمسة التي تتبادل سرد الحكاية متراوحة طبقياً واجتماعياً وثقافياً، ورؤيوياً بالضرورة، وهو ما يجب أن ينعكس على «اللغة» كأداة وحيدة لكشف الوعي الروائي. نجح العشماوي في تقديم هذا التراوح بين الأصوات المشتجرة، مثلما نجح في جعل كل شخصية «زاوية جديدة للنظر» وليست تكراراً لصوت آخر، وهو ما تخفق فيه الكثير من روايات الأصوات حيث تُوحِّد من دون وعي بين صوتين أو أكثر لتصبح الأصوات «المتعارضة» وجهة نظر واحدة موزّعة «شكلياً» فقط على أصوات عدة. من هذا المنطلق، أرى أن «سيدة الزمالك» رواية أصوات ناجحة، إذ تتمتع بلعبة «مرآوية» تختبر كل شخصية في مرآة شخصية أخرى، فزينب تعكس عباس مثلما يفعل هو العكس، وناديا تعمل كمرآة لطارق المصري ومراد الكاشف، فيما يعكسانها بالقوة نفسها. وتتبادل المرايا الأدوار، لتعكس ناديا عباس أو لتكشف زينب مراد، وكأنها لعبة يتبادل فيها الجميع الأدوار: «يا ترى من الذي عليه الدور أولاً يا عباس؟! أنا أم أنت؟!». بالتقاطع مع المتون الثلاثين التي تُشكل فصول «سيدة الزمالك»، ينهض ثلاثون هامشاً، (بضمير المتكلم أيضاً) هي العبارات المفتاحية التي تتصدر كل فصل، ببنط طباعي مختلف. إن هذه «العتبات» تعمل كاستخلاصات وجودية، شعرية، لما يبسطه التجسيد الدرامي مِن تشابك. وكأن «سيدة الزمالك» تنهض على عناق بين الاستخلاصات المجردة والبُنى الدرامية المتفق عليها. إن سطراً مثل «طفولتنا تُنفش على حجر ذاكرتنا فلا تغيب عن عقولنا أبداً» هو، على سبيل المثال، التكثيف المجرد لناديا كساردة، مثلما يلخص سطر مثل «مكبل بطموحاتي كتمثالٍ وسط ميدانٍ خالٍ من المارة، تنقر الشمس رأسه كل صباح» الوضعية الوجودية لعباس المحلاوي. وهو المنطق الذي ينسحب على الذوات الساردة لهذا النص، وكأن كلاً منها يتوافر على لغتين في واقع الأمر: لغة السرد المشهدية ولغة الاستبطان التأملية. مبدئياً، تتناص «سيدة الزمالك» مع أسطورة بيغماليون، فزينب تتحول على يدي أخيها عباس من محض ريفية شحيحة الجمال محدودة التعليم تخطو في العالم بعاهة ساقها، إلى إلهة مجتمع قاهرية ترطن بأكثر من لغة. تصير زينب هي طريق عباس لدخول قصر شيكوريل بحثاً عن الكنز المخبأ، بعملها كجليسة للزوجة العجوز، قبل أن تحل محلها لتصبح هي ذاتها «سيدة الزمالك». بين عباس وزينب هناك «ناديا»: الابنة الزائفة، والتي كانت جزءاً من صفقة، حيث استبقياها كرهن إلى أن يعود اليهودي «مِنَشه» بمقابل بيع الجوهرة، لكن اليهودي وزوجته يقضيان مع سقوط الطائرة، وتتبقى «ناديا»، لتشبع لدى زينب حلم الأمومة المجهض، والذي تحقّق لمرة واحدة بابنة غير شرعية ألصقت بأب ليست من صلبه، قبل أن تموت في حادث مريب، دارت فيه الشبهات حول «عباس» نفسه. تطرح «سيدة الزمالك» تمثيلاً واسعاً للأدوار الرئيسة في المجتمع المصري من بواكير القرن العشرين إلى الآن. فزينب تمثيل للصعود الاجتماعي والطبقي غير المدعوم، هي «القفزة في الفراغ» التي يمكن أن تنسحب على شخصيات لا حصر لها غادرت متن الثقافة الريفية لتختبئ في المدينة. مراد الكاشف هو أيضاً تمثيل واسع لضابط ثورة تموز (يوليو)، يتجاوز حدوده السطحية كشخصية روائية، ينهض قبالته «طارق المصري»، الذي لا يخلو لقبه من دلالة، كتمثيل لـ»فرد يوليو» المتأرجح بين الفن والتطرف، والرازح في الأحوال كافة تحت نير طبقته المحتقَرة. كلاهما ضلع في مثلث ثالثته «ناديا» (مصر؟) التي تجد نفسها ممزّقة بين المسدس ومرماه.
إنه ثالوث آخر يُضاف إلى ثالوث (زينب، سالم، ناديا)، الذي يتناص بدوره مع ثالوث (الآب، الابن، الروح القدس) وحيث ناديا ابنة المطلق، ممثلاً في الأفكار اليوتوبية، وقرينة البراءة والطهرانية، كأنها رسولة هذه الأسرة العاقر لإعادة عدالةٍ مفتقدة.
في هذه العناصر التكوينية والرؤيوية، وغيرها مما يضيق دونه مقال واحد، لا تنهض «سيدة الزمالك» على استعادة التاريخ، بل تضع نفسها فيه عندما كان «حاضراً»، بغية «إحيائه» وتفكيكه وليس استرداده بتأكيد جاهزيته. وكأن الماضي هو مضارع هذا النص، في دلالة أخرى على أن التاريخ لا يُقبر. كذلك تصيب «سيدة الزمالك» هدفها بالاتكاء على «صوت الهامش»، وعلى خطاب «القاتل» لا «الضحية»، لتطرح في الأخير سؤالها الكبير: أيُّنا، حقاً، هو «الجلاّد؟».