وائل لطفى
نقلاً عن الوطن
من آن لآخر أطالع شاشة «ماسبيرو زمان»، أبحث فيها عن ملامح مصر التى كانت وبتنا جميعاً نفتقدها. يلفت نظرى أن المثقفين كانوا نجوماً أيام زمان.. أرى اللقاء الشهير الذى استضاف طه حسين ومعه تسعة من أشهر المثقفين المصريين ليحاوروه، ثم أرى طارق حبيب -نجم ذلك الزمان- وهو يخصص خمس حلقات لمحاورة نجيب محفوظ قبل أن يفوز بـ«نوبل» بوقت طويل، وأراه فى حلقات أخرى يحاور يوسف إدريس الذى يجلس كملك من ملوك الكلام والفكر.. بغضّ النظر عن تفاصيل كثيرة، بل كثيرة جداً، كان المثقفون فى مجتمعنا يقدَّمون كقدوة للناس، وكانوا هم الذين يصنعون وعى الناس وتصوراتهم عن العالم، وكان امتلاك قدر ملائم من الثقافة شرطاً لتولى المناصب العامة، خاصة فى مجال الإعلام. الآن -وعلى مدى أربعين عاماً أو أكثر- لم يعد ذلك موجوداً.
المثقف ليس شرطاً أن يكون أديباً أو كاتباً كبيراً.. الأطباء والمهنيون والاختصاصيون فى شتى المجالات الذين كانوا يخاطبون الناس فى شتى المجالات لم يعودوا موجودين.. اختفى نجوم الطب النبلاء من طراز هاشم فؤاد، وظهر أطباء مبتذلون فى برامج إعلانية مدفوعة هدفها خداع المريض والاستيلاء على أمواله.. اختفى المهندسون المعماريون العظام، وحل محلهم سماسرة العقارات. والأهم من هذا أن الدعاة، ومتطرفى الفضائيات، وشيوخ الكاسيت السلفى، والدعاة الجدد حلُّوا محل المثقفين فى صياغة وجدان الناس.
بدأ الأمر فى السبعينات حين ظهر الشيخ الشعراوى كأول داعية تليفزيونى تحوّل إلى نجم.. اشتبك معه يوسف إدريس فى بداية الثمانينات بمقال حاد مدبب، لكن الهزيمة حاصرته، واضطر إلى الاعتذار. فى الثمانينات -وعلى سبيل المجاز- كان مثقف تقدمى مثل أسامة أنور عكاشة يتولى صياغة وجدان المصريين من خلال مسلسلاته، لا أحد ينكر أنه كان مؤثراً، صاغ وجدان المصريين بطريقة ما. فى التسعينات لم يعد الأمر كذلك، تولى داعية آخر مثل عمرو خالد صياغة وجدان الشباب، كانت القيم التى يزرعها عكس ما حلم به أسامة أنور عكاشة، لم يعد هناك الوطن، ولا الوحدة الوطنية، ولا التاريخ القديم، ولا البحث عن الهوية، صار هناك البزنس مخلوطاً بالدين، ومناهج التنمية البشرية مخلوطة بتصورات أمريكية للإسلام. فى سنواته الأخيرة لم يعد أسامة أنور عكاشة هو نفسه ذلك الذى عرفناه فى الثمانينات، واشتبك مع هذا النوع من الدعاة فى معارك صحفية وفكرية. الآن اختفى المثقفون تماماً من ساحة صياغة وجدان المصريين.. وبقيت الساحة فارغة تنتظر الأفاقين والمغامرين ووكلاء الرب المزيفين. لا يمكن أن نحلم بنهضة دون ظهير فكرى، ولا يمكن أن نكسب معركة الوعى دون قادة ميدانيين يحاربون على الأرض. هناك فراغ كبير.. يجب أن نملأه قبل أن يملأه الأعداء.. هذا إذا لم يكونوا قد ملأوه بالفعل.