بعد انتظار ١٤ شهرًا منذ إعلانها عن التعاقد عليه، أطلقت شبكة “نتفليكس” الفيلم الإسرائيلي الملاك المستوحى من كتاب “الملاك – الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل”، والذي يحكي عن أشرف مروان زوج السيدة منى جمال عبد الناصر، وسكرتير الرئيس السادات للمعلومات، الذي تم دفنه ملفوفًا بعلم مصر في جنازة عسكرية، وبكى عليه اللواء عبد السلام محجوب عليه، كما لم يبك من قبل -حسب قوله-
وجهة نظر الفيلم تدور حول كيف كان جاسوسًا مزدوجًا واستطاع أن يكون أحد أبطال الدولة الصهيونية لخدماته المخابراتية الجليلة.
نرشح لك- عمرو قورة يكتب: الملاك “الكيوت” القادم من الغرب
انتظرت ظهور الفيلم لاهتمامي الشديد بهذه الفترة من تاريخنا، لأني عايشتها، وأيضًا لأفهم سر هذا الرجل، وكيف استطاع أن يخدع أقوى جهازين للمخابرات بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وهل فعلًا خدع الموساد وجهاز المخابرات المصري؟ أم كان يعمل مع أحدهما وخدع الآخر؟ علمًا بأنني كإنسان مصري، لدي وجهة نظر أحادية نتيجة سنوات من سماع خطاب إعلامي أحادي، أثبت كذبه في سنة ١٩٦٧، سأكون منحازًا ورافضًا لرواية إسرائيل، ومصدقًا المشهد المهيب الذي أقامته مصر عند وفاة أشرف مروان، ووجهة النظر التي تقول أنه بطل مصري وخدع الصهاينة.
وحتى أكون منصفًا في تحليلي للمحتوى، تخيلت نفسي مواطن من أمريكا الجنوبية يشاهد فيلمًا عن دول لا تخصه، حتى لا أكسر التلفزيون، من فرط غيظي وغيرتي على سمعة بلدي، لأني أعلم كيف تجيد إسرائيل التأثير على الرأي العام العالمي وكيف يستخدمون السينما والتلفزيون ببراعة شديدة لنسج أكاذيب عن العرب وإظهار تفوقهم، وكيف يضعون الرسالة في قالب معين لتصل إلى قلب المشاهد بدون المرور على عقله.
وبدأ الفيلم كما تبدأ معظم الأفلام والمسلسلات الحديثة، بمشهد عن واقعة كبرى، ثم يبدأ القصة بالرجوع بالمشاهد بالزمن لبداية الموضوع وكيف وصلنا إلى هذه النقطة الحاسمة التي بدأ الفيلم بها، وفي أول مشهد نرى أشرف مروان يهرب أسلحة عبر مطار روما مستخدما الحقيبة الدبلوماسية للفدائيين الفلسطينيين، الذين كانوا ينوون تدمير طائرة شركة العال عند إقلاعها، ولكننا لا نرى ماذا حدث، لأن المخرج قطع المشهد عندما ضغط الفدائي على الزناد، وانتقل من الزمن الحالي في سبتمبر ١٩٧٣ (قبل حرب أكتوبر بشهر) إلى ما قبل ٣ سنوات في سبتمبر ١٩٧٠، قبل وفاة “عبد الناصر” بأيام قليلة.
وفي أول عشر دقائق يبرر لنا صناع الفيلم سبب خيانة أشرف مروان لمصر، وهم بترتيب الأحداث: الإهانة المستمرة من عبد الناصر لأشرف أمام الجميع والتي وصفها أشرف مروان في حوار مع زوجته بأن والدها يكرهه، والشيء الثاني هو تأثره بمحاضرة عن الجاسوس المزدوج “جاربو” الذي قلدته ألمانيا النازية وملك إنجلترا أرفع الأوسمة باعتباره أحد أهم أبطالهما، وذلك لاعتقاده أنه يستطيع إنقاذ العالم من أهوال الحروب من الزعماء المتعطشين للدماء، وطبعًا السبب الثالث وهو حب أشرف مروان للنساء والقمار وشرب الخمر وجمع المال -حسب قولهم- فمن السهل اصطياده لو وضعته في ظروف مثل هذه مع المرأة المناسبة وإشباع رغباته مقابل تجنيده.
لكن عندما قرر الرئيس جمال عبد الناصر إعادة ابنته وزوجها إلى مصر خاف أشرف واتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن وطلب مقابلة السفير ليعطيه معلومات مهمة ووقتها قيل له أن السفير غير موجود، وفجأة مات عبد الناصر وعادوا إلى مصر لتلقي العزاء، وأثناء المراسم تسلل أشرف مروان إلى مكتب الرئيس وعثر على وثائق كان ناصر يحتفظ بها تدين كل من حوله، سامي شرف وشعراوي جمعة وعلي صبري، وتوجه بها إلى الرئيس أنور السادات، وساعدت تلك الوثائق السادات في التخلص القانوني وغير القانوني من معارضيه فيما سمي وقتها بـ”ثورة التصحيح”، ولهذه الخدمة الجليلة عينه السادات سكرتيرًا للمعلومات، وبعدها عاد أشرف ومنى إلى لندن لاستكمال دراسته، ولكن جاءته مكالمة سمع فيها تسجيلًا لاتصاله بالسفير الإسرائيلي، وعرضه بأن يمدهم بالمعلومات، وفي نهاية التسجيل صوت سيدة قالت له أن السفير الإسرائيلي ينتظره، وعرف أشرف مروان وقتها أنه في ورطة وأن الإسرائيليين يمتلكون ما يجعله يُعدم رميًا بالرصاص، بسبب الخيانة، وهنا بدأت رحلة العميل المزدوج.
سأكتفي بهذا القدر حتى لا أحرق عليكم أحداث هذا الفيلم المثير للجدل والمصنوع بحرفية شديدة -بصرف النظر عن لهجة الممثلين- والذي يمثل في رأيي قمة المهارة في استخدام الفن في التأثير على اللاوعي، وأنا لست مطلعًا على ملفات المخابرات فلا أستطيع تأكيد أو نفي أية أحداث، وإن كنت أتذكر أن موضوع تسليمه المستندات للسادات هي واقعة حقيقية ومعروفة، فسأترك التحليل السياسي، والجدل حول “حصل وما حصلش”، ولكن المهم أنهم أوصلوا فكرتهم ووجهة نظرهم المليئة بالرسائل الخفية والتي طبعا تخدم إسرائيل وتحسن صورتها أمام العالم،
أما الخيبة الثقيلة فهو موقف الفن والإعلام المصري ومخاطبته للداخل فقط وكأن الرأي العام العالمي سيتأثر بمسلسل “رأفت الهجان” الذي يذاع على ماسبيرو زمان… ودمتم!
لماذا لا ننتج أعمالًا احترافيه هكذا نعرض قضيتنا وعدالة موقفنا للعالم عن طريق أفلام عالمية؟ هل قصة الحفار الإسرائيلي والذي دمرته المخابرات المصرية على شواطيء إفريقيا لا تصلح فيلمًا عالميًا؟ عندما يسافر رجال المخابرات كجزء من فريق عمل فيلم “عماشة في الأدغال” مع الفنان محمد رضا وصفاء أبو السعود، للتمويه على رجال الموساد، ووجهوا ضربة قاسية للإسرائيليين، وأثبتنا أن أجهزة مخابراتنا تفوقت على الموساد ببراعة واقتدار، ألا تستحق مثل هذه القصة أن تنتج في هوليوود؟ والله لقد هرمنا من كثرة تكرار هذا السؤال.
أرجو أن يشاهد الجميع الفيلم لأن فيه مفاجأة للجميع ويستحق المتابعة وطرحه للنقاش، فهم يكتبون تاريخنا بدلًا عنا، ونحن لا نحرك ساكنًا للأسف.