منذ وطأت قدماي أرض مدينة “الجونة” هذا العام، وقفت للحظات قليلة في محاولة لاسترجاع خريطة تلك البقعة الصغيرة من أرض مصر منذ زيارتي لها العام الماضي، لم تكن المعالم ذاتها التي حفظتها عن ظهر قلب المرة السابقة، هل تبدلت الشوارع أم تبدلت الأرض؟! وما الذي تغير بها؟! وما الطفرة التي أحدثها مهرجان وليد الصنع مثل مهرجان “الجونة”؟! هل وصلت تلك الرسالة الصغيرة إلى الغرب “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”؟.
نرشح لك: ريا أبي راشد تصل الجونة مساء اليوم
تلفت من حولي شاردة الذهن بمعالمها الجديدة، وتذكرت العام الماضي وتلك اللحظة التي أشار فيها هاتفي بوجود رسالة على البريد الإلكتروني تؤكد أنني على موعد مع زيارة الجونة للمرة الأولى، للمشاركة في هذا المهرجان الفني الوليد، وأخذتني حماسة الذهاب والمشاركة، وحين وصلت بدأ الملل يتسلل داخلي منذ الساعات الأولى، المدينة فارغة ولا يعمرها سوى العاملين في المهرجان والعاملين بالمدينة ذاتها، تيقنت في تلك اللحظة أنها مجرد رحلة عمل تتلخص في العبور من مقر الإقامة حتى مقر المركز الصحفي تخلو من الاستمتاع.
ظلت الأجواء هادئة لا يعكرها صوت غريب عن أصواتنا، ظللت أتابع في صمت ما يفعله القائمون على المهرجان، وأحلامهم الوردية في أن يصل المهرجان لنجاح غير مسبوق، وظلت السخرية منهم كامنة داخلي أعبر عنها بصمت تام، ونظرات خلت من الحماس حول أحاديثهم الملائكية عن النجاح الساحق والضجة التي سيحدثها المهرجان، لتنقل المدينة نقله سياحية نوعية في مدة زمنية لا تتجاوز العشرة أيام، ظلت الأسئلة تراود فكري أثناء متابعة حماسهم، لماذا تلك المدينة المهجورة نذهب إليها بمهرجان لديه هذا التمويل الضخم؟! ولما يعاد ترميمها ولن تؤتي ثمارها؟!
وبمرور الأيام عقب افتتاح الدورة الأولى للمهرجان كانت المفاجأة قبل يومين من الختام، حين وصلت إلى منطقة وسط المدينة لتناول الغداء في ملل من تكرار الأحداث وجلوسي بين الأصدقاء الذين تعمر وجوههم فقط تلك المطاعم، وما أن وصلت إلى الساحة حتى تجمدت عيناي، رأيت وجوها جديدة لم آراها من قبل، وصغار يلهون بالساحات وآخرين يترجلون بين المحلات التجارية وزحام مثير لعلامات التعجب.
جلست إلى طاولتي في حالة من الذهول الخفي، هل كان عقلي محدود الآفق لهذه الدرجة؟! هل خانني ذكائي في تقدير حدوث هذا المشهد؟! نعم.. نجح المهرجان الفني بوجود القوى الناعمة من نجوم الفن في إحياء تلك المدينة مرة آخرى.
أعادني سائق السيارة الأجرة إلى الوجود من غفوة الذكريات بكلماته “وصلنا يا فندم”، ترجلت من السيارة ووقفت للحظات اتفحص الشوارع تحولت المدينة وأصبحت أشبه بدولة جديدة، يعمرها السكان والسائحون من جنسيات مختلفة، صار هناك حياة جديدة وصار شعور الطمأنينة لدى الجميع أن مصر آمنة.
أعادتني تلك المشاهد إلى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وإلى القاهرة العامرة المبهرة الساحرة الساهرة، وعلمت أن مهرجان القاهرة سقط جريحا بفعل فاعل، أراد النيل منه لجهله بقيمة الفن وقيمة تبادل الثقافات بين الشعوب من خلال المحافل الفنية الكبرى، قاتل أعماه الجهل الفني عن قيمة تلك القوى الناعمة في مصر وخارجها، وقدرتها على إعادة مصر سريعا إلى مكانتها الدولية، وإعادة أمنها وجذب الأنظار إليها من خلال تلك المهرجانات الفنية التي تؤكد في مقامها الأول أن مصر آمنة لزوارها، وأن القوى الناعمة سلاح أقوى من الأسلحة الثقيلة، في زمن تبدلت فيه الحروب الدموية إلى حروب فكرية وثقافية، فكان تقليل ميزانيته أقوى سلاح لدق عنقه.
وأيقنت أننا بتنا في مرحلة نعادي فيها أنفسنا، وأن ما استثمره الزمان بدعم القوى الناعمة للنهوض بمستقبل الأمة، وتغيير سلوكيات الشعوب وتحديث أفكارهم وترسيخ إيمانهم بحب الوطن والتضحية له، أفسده تقدم الأجيال وتأخر الفكر والأفكار بتسلل الأفكار الدينية المتشددة وتسلل العقول الفارغة غير المدركة لقيمة هذا السلاح الناعم في مواجهة التيارات الراديكالية، وبات النظر للقوى الناعمة أنهم حفنة من البشر، خلقوا للتعري وتبادل القبلات على شاشات السينمات، وليس للإمتاع الفكري والحسي وتغيير نظرة العالم حول “أم الدنيا”.
لم تكن الجونة لتنهض وتنتفض سياحيا دون دعم تلك القوى، ولَم يكن العالم ليعلم بوجودها إلى أن تلألأ ضي نجمهم عاليا بالسماء ليشير إلى وجود تلك البقعة الصغيرة الساحرة من الأرض.
تساءلت أثناء عودتي إلى مقر إقامتي، أين نحن من تلك العقول المستثمرة القادرة على خلق نهوض اقتصادي حقيقي مثل الأخوين نجيب ساويرس وسميح ساويرس؟ ولما لا نستعين بأبناء الوطن للنهوض به اقتصاديا والخروج من عنق الزجاجة؟! ولما تسدد الضربات الحالية تباعا لسوق السينما والدراما بين استهداف واحتكار؟! حتى باتت صناعة الفن كاملة مهددة بالانقراض، وأن ضاعت الفنون من تلك الأمة لغرقت في جهل لن يعالج ولو بعد حين.