– عقلانية هارولد إيرل
أول رئيس تحرير عمل معه بجريدة “إيجيبشيان جازيت”، عام 1942 وصاحب أهم “نصيحة” تلقاها هيكل في حياته، وهي أن يسجل على الورق كل ما يراه ويعايشه من خلال عمله الصحفي، لأن الاعتماد على الذاكرة خطر فهي “ليست صندوقا من حديد وصلب، دونه سلاح وعليه أقفال، وإنما وعاء مفتوح تصب فيه وتتسرب إليه ليل نهار صور ومشاهد ونزعات ومطامح، وكله يتفاعل مع بعضه في عملية شبه كيميائية وتكون النتيجة خلقا آخر يذوب فيه الأصل”.
ولقد ظل هيكل طول عمره يحفظ هذا الدرس، وظلت أوراقه المكتوبة “مرجعا”، بالنسبة له على الأقل حينما تخونه الذاكرة.
كان “إيرل” صحفيا كلاسيكيا يرى أن مجال التكوين الأول لأي صحفي هو مجالي “الجريمة” و”الحرب”، ولذلك قضى هيكل عاما كاملا يعمل كمساعد مخبر صحفي، مهمته أن يطلع على “دفتر الأحوال” اليومي في محافظة القاهرة ويختار منه الجرائم التي تصلح للنشر في جريدة تصدر باللغة الإنجليزية.
وبعدها جاءته الفرصة الأهم والأخطر وهي العمل كمراسل حربي باقتراح من ذلك الإنجليزي الذي أراد صحفيا مصريا لتغطية معركة العلمين بـ “عين” مصرية. ولم يتردد هيكل في الذهاب، وفي سبيل ذلك فإنه حصل على توقيع “خاله” بدلا من أبيه، باعتباره ولي أمره، لأنه كان يعلم أن والده لن يوافق.
وكان هذا هو الدرس الثاني الأهم في بداياته، فالجريمة هي ذروة المأساة الإنسانية على المستوى الفردي، والحرب هي ذروة المأساة الإنسانية على مستوى الشعوب والأمم.
– التابعي.. الأسلوب الحلو
كان الأستاذ محمد التابعي يعتبر هيكل “اكتشافا” قام به هو شخصيا، وفي الواقع كان آخر تلاميذه، ولذلك أخذه من الإچيبشيان جازيت وعينه سكرتيرا لتحرير مجلته “آخر ساعة”، وهو لم يتجاوز بعد سن الـ21. وكان العمل معه ” تجربة ممتعة”، تعلم منها “التلميذ” هيكل الكثير، وأعجب بأسلوبه الحلو السلس، ولزمن راح يقلده.
وعلى العكس من هارولد إيرل، كان التابعي يرى أن “المسرح” و”البرلمان” هما أساس تكوين أي صحفي مبتدئ؛ ولفترة عاش هيكل في تلك الأجواء، وعن طريقها اقترب من السياسة المصرية الداخلية، وكذلك ارتبط بصداقات وطيدة مع شعراء وفنانين من وزن كامل الشناوي ومحمد عبدالوهاب.
ولقد ظل هيكل طول عمره شديد الاعتزاز بأستاذية التابعي وفضله عليه، باعتباره أحد أهم المجددين في الصحافة المصرية؛ لكن الدرس الأهم الذي تعلمه منه هو الفصل الكامل بين العاطفة والعمل، وكذلك حساب “التكلفة” المادية والمعنوية على المستوى الشخصي والعام.
– محمود فوزي.. دبلوماسية القوة
في رأي هيكل فإن الدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق، هو “أبو” الدبلوماسية المصرية الحديثة، الذي لم ينل تكريما يليق به وبما قدمه من أجل مصر.
لا يذكر هيكل ظروف معرفته بفوزي -أين ومتى، لكنه لا يخفي أبدا إعجابه الشديد به، وبطريقة وأسلوب تفكيره وعمله، ويراه “نموذجا” يحتذي به كرجل بارع في مجالات الدبلوماسية والسياسة والمفاوضات، تشهد على ذلك إدارته الناجحة لأزمة تأميم القناة في الأمم المتحدة، وقبلها دوره في تأسيس وترسيخ فكرة الحياد الإيجابي.
وطول الوقت ظل هيكل -عندما تأتي سيرة التفاوض والمفاوضات يستشهد بمقولة فوزي الشهيرة “هات القوة وتفاوض” باعتبارها “دستورا” وأساسا لأي مفاوض مصري أو عربي.
– محمود عزمي.. أستاذ لم يأخذ حقه
يعتبر هيكل أن محمود عزمي، بالنسبة له، كان مزيجا من “معلم ومرشد”، وواحدا من “أهم العقول المصرية المفكرة في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ورائدا من رواد الكتابة الصحفية المتعمقة في قضايا الشرعية والديمقراطية والتجديد”، لكنه لم يأخذ حقه بسبب “زواجه” من سيدة روسية، أي “شيوعية”!!
لكن بالنسبة لهيكل فإن محمود عزمي هو “أستاذ” جيل بأكمله. لم يكن يكتفي فقط بالنصائح التقليدية العابرة، بل كان يوجه تلاميذه للقراءة المتعمقة في قضايا العصر، فالقراءة هي القاعدة الصلبة لأي صحفي وكاتب.
– صحفي علي خط النار
ربما لم يتح لأي صحفي مصري وعربي أن يعيش تجربة الحرب كما عاشها هيكل، فهو الصحفي صاحب أكبر عدد من التغطيات الصحفية على طول تاريخ الصحافة، بدءا من معركة العلمين الشهيرة وهو في سن التاسعة عشرة، و ما تلاها من حروب في المنطقة والعالم، كالحرب الأهلية في اليونان، وحرب فلسطين، وصولا للحرب الكورية، وكذلك لمناطق الصراع ومواقعه المشهورة، كسلسلة الانقلابات في سوريا، وأزمة تأميم البترول في إيران، واغتيال الملك عبدالله مؤسس الأردن، فهذه الحياة مع الخطر جعلته “خبيرا” بأحوال الإقليم كله، وعلى صلة شخصية بكل الساسة والقادة، كما أنه أقام صداقات مع زملائه من المراسلين والصحفيين من كل دول العالم، وكل ذلك حوله من صحفي يسأل عن الأخبار إلى صحفي يسأله الآخرون عن الأخبار.
– 75 عاما في بلاط صاحبة الجلالة
بعد أن قضى “هيكل”عامين في “الإجيبشيان جازيت”، التي كانت تصدر بالإنجليزية في مصر عن الشركة الشرقية للإعلانات، انتقل إلى مجلة ” آخر ساعة”، بناء على رغبة مؤسسها الكاتب الصحفي الأشهر محمد التابعي، وفيها وصل لمنصب سكرتير التحرير. وعندما باع التابعي مجلته عام 1946 لعلي ومصطفى أمين، انتقل هيكل لأخبار اليوم، وقضى فيها أحد عشر عاما برز فيها اسمه ولمع نجمه حتى أصبح “الرجل الثالث” في المؤسسة بعد مؤسسيها.
وفي عام 1957 جاءته الفرصة الأهم في حياته حين قبل منصب رئيس تحرير جريدة الأهرام. وخلال 17 عاما تربع على عرش الصحافة المصرية؛ مشاركا في المطبخ السياسي المصري بالمشورة والرأي. وفي عام 1974 ترك الأهرام لخلافات مع الرئيس السادات، ولم يقبل بأي وظيفة خارج مهنة الصحافة، ورفض كل العروض المقدمة له، وذهب لبيته يكتب حتى وهو ممنوع من الكتابة في بلده.
ورغم كل محاولات تجاهله أو التقليل من شأنه وشأن آرائه وكتاباته إلا أنه استطاع أن يفرض نفسه على الساحة الصحفية الدولية، وصدقت مقولة أنتوني ناتنج -وزير الخارجية البريطاني الأسبق- حين قال: “عندما كان قريبا من السلطة كان الجميع مهتما بما يعرفه، وأما بعد ابتعاده عنها تحول إهتمام الكل لما يفكر فيه”.