هذا فيلم مدهش فى كل تفاصيله بامتياز، إذ يظل المُشاهد متشبثًا فى مقعده متوترًا، يفكر فى مصائر أبطاله فى الثانية التالية، بينما كل الأحداث نراها، أو -للدقة- نسمعها عبر عيون وانفعالات وارتعاشات يد الممثل الدنماركى الفذ «جاكوب سيدرجرين» فى دور الضابط «أسجر»، إذ تدور أحداث الفيلم فى 85 دقيقة، دون لحظة ملل واحدة، داخل «لوكيشن» واحد فقط، هو مركز تلقى اتصالات الطوارئ فى الشرطة الدنماركية. نرى الضابط «أسجر» وهو يتلقى الاتصالات فى ملل وزهد بالغ قبل أن يأتيه فجأة اتصال من امرأة بصوت باكٍ مرتعش، تخبره فيه بأنها تعرضت للاختطاف فى سيارة «فان» بيضاء على يد رجل، نعرف بعد قليل أنه زوجها، وأنه يهددها بسكين.
ينقلب يوم «أسجر» البطىء الممل رأسًا على عقب، ونراه ينصهر مع ما ترويه له المرأة، ويبدأ، ومعه الجمهور، فى تكوين وجهة نظر عمّا يجرى لها عبر صوتها وما نسمعه من أصوات حولها، ينفتح باب السيارة بعنف وتصرخ، فنعرف أن زوجها قد اقترب منها، تتوسل لـ«أسجر» بصوت باكٍ أن يهتم بطفلَيها، وأحدهما رضيع وقد تركته فى منزله، فنعيش دقائق من الترقب، وأسجر يتحدث إلى ابنتها فى التليفون، ونسمع صوتها المرتعش وهى تصف إليه ما جرى، وكيف أن أباها، الذى اقتحم البيت فى عنف، أخذ أمها عنوةً مبتعدًا بها، وحذر ابنته من دخول غرفة شقيقها الرضيع مطلقًا. لماذا فعل الأب هذا؟ هل أذى الرضيع؟ هل سيقتل الأم؟ هل سيعود لاحقًا ليقتل الطفلة الصغيرة؟ يرسل أحد ضباط الشرطة زملاءه لمنزل الأسرة ليحمى الطفلة والرضيع، لنسمع الصدمة المرعبة.. الرضيع مقتول فى فراشه. ينجح أسجر فى العثور على رقم هاتف الزوج، فيتصل به محذرًا، متوعدًا بالسجن، يغلق الزوج الهاتف فى وجهه، فيجن جنون أسجر ويطلب من رؤسائه فى العمل البحث عن الزوج القاتل والزوجة المختطفة، فيصطدم ببطء وروتينية فى الأداء، يعاود الاتصال بالزوجة ويحاول أن يهدئ من روعها ويرتب معها خطة صغيرة للهجوم على زوجها والهروب منه عند أول توقف للسيارة، تنجح خطته بالفعل، لكن فى نفس لحظة اكتشافه أن الزوجة هى مَن قتلت الطفل الرضيع وليس الزوج، وأن الأخير كان يحاول الذهاب بها إلى مصحة نفسية بعد تنفيذها الجريمة!
الفيلم مغامرة سينمائية كبيرة، ورغم أنه بصريًّا يدور فى «لوكيشن» واحد، فإنه عبر انفعالات وأصوات أبطاله «الضابط- الأم- الزوج- الابنة الصغيرة»، ينتقل إلى شوارع وبيوت وجسور عدة، كما نجحت المؤثرات الصوتية المصاحبة للمكالمات فى نقل الإحساس بالأماكن التى نسمعها ولا نراها بدرجة مذهلة، ثم إن انفعالات البطل، على هدوئها الأغلب بحكم دقة الموقف الذى يمر به، وانفلاتها فى بعض الأحيان بكل ما يعتمل فيه من مشاعر، بعضها أيضًا يعود إلى شعوره بالذنب كونه قتل أحد المتهمين فى السابق بالخطأ.. قامت بدورها على أكمل وجه فى نقل المشاهد ليس إلى داخل مركز الطوارئ فحسب، بل داخل نفس كل بطل من أبطال الفيلم جميعًا.
المذنب «The Guilty» فيلم يكشف عن عظمة السينما وقدراتها، ويؤكد من جديد أن متعة المشاهدة وعمق الرؤية لا يأتيان بتعدد أماكن التصوير، أو تعدد الشخصيات، وأنه يمكن أن تصنع فيلما مذهلا فى «لوكيشن» واحد وعبر بطل واحد، فقط إذا كان وراء ذلك رؤية واضحة وإدراك لمعانى الجمال الكامنة دومًا فى أدوات السينما لمَن استطاع إليها سبيلًا.