عندما عُرِضَ عَليّ فكرة أن أكتب عن “الأستاذ” الذي أثر في حياتي أو ترك بصمة في شخصيتي، أحسست أن الموضوع سيكون سهلا في التناول، ولكن ما أن بدأت في الكتابة؛ حتى تضاربت الأفكار في ذهني، فمن سأختار؟! هل سأختار أحدا من أفراد الأسرة أو العائلة، أم من حياتي الدراسية، أم أحد الشخصيات المشهورة؟
نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: هند موسى ترند!
قرّرت أن أرجع بذاكرتي لسِنِين طفولتي، تلك المرحلة التي تتشكل فيها شخصية كل إنسان، ومن البديهي أن أُقَدِّم الامتنان الأول لوالدي ووالدتي، إلَّا أنني في تلك المرحلة كنت أنعم في رحاب جدي وجدتي في دائرة من الحنان والرعاية لا أظنها تتكرر لدى أجداد هذه الأيام.
بالفعل.. أساتذتي الأُول كان جديَّ العزيزين، لقد زرعا في شخصيتي الثقة بالنفس والمثابرة والاجتهاد، وذلك من خلال تشجيعي في فترات لعبي وجدي، كنت أرى نظرات الفخر بتحصيلي درجات التفوق في سنوات الدراسة الابتدائية وكأنها حصول على شهادة في الدراسات العُليا، لقد كان لقبي لدى جدي “حمدي الفيل” هو “الدكتورة”، كان يعلم أني أريد أن أكون طبيبة مثل خالي وخالتي، كانت جرائد “الأخبار والأهرام والوفد” التي واظب على شرائها وقراءتها نواة حبي للقراءة، أعطاني كل الحب لأني حفيدته الأولى، وكان احترامه وتقديره لي منذ صغري مصدر طاقتي وعزمي على التفوق الدراسي.
أمَّا جدتي “نجيبة السلنتي” فمواهبها في الرسم والخياطة كانت بمثابة براعم لهواياتي وحبي لكل ألوان الفنون والأشغال اليدوية، تجلس على ماكينة الخياطة لتخيط لنا ملابس النوم التي أعشقها لمجرد أنها من صنع يديها، ما أملكه من نوستالجيا تليفزيون الثمانينات كانت بسبب العيش في بيت جدي، مشاهدة برنامج “حياتي” و “حديث الروح” بمصاحبة جدي، ومتابعة نادي السينما” و”أوسكار” مع خالتي، والاستماع لإذاعة القرآن وبرامج الراديو بصحبة جدي، فقط أسمع لتتر هذه البرامج حتى أرجع إلى الوراء ثلاثين عاما طفلة بريئة لم ينغص حياتها شيء بعد، رائحة لمبة الجاز أثناء انقطاع الكهرباء، والنوم في حضنها ليلا والسبحة في يدها والرقية في لسانها، علمتني صلة الرحم والبر إلى الأقارب، كانت تصحبني في زيارة إلى بلدتها، لتطوف على بيوت جميع إخوتها واحدا تلو الآخر، بل كانت تقطع مسافات بعيدة لزيارة شقيق لها في مدينة أخرى غير مدينتنا، تركب المواصلات وتشتري الهدايا، تجمع الأقارب والجيران في الأعياد تصنع كحك عيد الفطر، وتبعث بأطباقه لسابع جار، ربة منزل ممتازة لا تكل ولا تمل شملت البيت برعايتها ودفء قلبها، مثالي النموذجي للزوجة الرؤوف والأم الحنون.
وبعد أن صعدت روحهما إلى بارئها؛ لازالا حيَّيْن في وجداني بما غرساه في شخصيتي ، خصالهما سبغت خصالي، وليس لدي سوى أن أستدعي أيامهما الجميلة كلما غمرتني مشاعر حزن أو كآبة، كما أني أعيش الآن محصنة بدعائهما لي من أعماق قلبهما أن “ربنا يجعل في وِشِّي القبول”..
أعود مرة أخرى لوالديّ، أمي “سهام الفيل” التي لن يضاهيها أحد في التضحية والتفاني والتسامح وقوة التحمل والصبر، وأبي “منير عبد الحليم بدير” الذي كان يُربينا من خلال النصيحة الرقيقة والمعاملة اللينة، والذي كان مثالا في التواضع والاحترام، وزوجي “علاء الدين العبد” الذي كان “أستاذا” في بناء الأسرة والمثابرة في العمل، ومثالا للحب والإخلاص.
وها أنذا لا زلت أطفو فوق موج الذكريات، طفلة بضفيرة على ظهري، أسير في الشوارع حتى مدرستي الابتدائية، فكل معلم في تلك المرحلة أدين له بالفضل، من علمَّني حروفي الأولى، ومن لَقَّني آيات قصار سور القرآن الكريم حتى حفظتها، ومن جعلني أحفظ “جدول الضرب” عن ظهر قلب، ومعلمة علمتني كيف أنَظِّم أفكار موضوع التعبير، وتلك التي علمتني أساسيات “الحبكة والحياكة/ الكروشيه والتريكو”، ومعلم آخر نَحَتَ فيّ أن “من غشنا فليس منَّا”.
أعتقد أن كل شخص مرَّ بحياتي كان “أستاذا” في شيء ما، فمؤكد أنَّ لكل منا جانب أو أكثر مثير للإعجاب، وإنِّي لأرى أنه بمجرد أن يمتلك الشخص سمة مثيرةً للاهتمام أو ما قد يُعدّ تميزا فإنه يستحق عندها لقب “الأستاذ”.
“أستاذ في الطب” الطبيب الذي يشعر بآلامي ومعاناتي قبل أن يكتب لي العلاج..
“أستاذ في التداوي” صوت عبد الحليم وموسيقى عمر خيرت وكلمات الأبنودي في لحظات الضيق..
“أستاذ في المقاومة” كل شخص لا يستطيع التحكم في جسمه بنسبة مائة بالمائة، وقد حٌّقَّقَ إنجازا لم يقدر عليه الأصحاء..
“أستاذة في الكفاح” الفتاة التي تتمرد على ظروف بيئتها ومجتمعها المغلق فتنطلق وتثبت ذاتها..
“أستاذ في الإيثار” الطفل الصغير القاصر الذي يعول أسرته ويسعى ويكد في العمل إلى جانب دراسته..
“أستاذة في التفاني” المرأة التي تقف في ظهر الرجل، و”أستاذ في الشهامة” الرجل الذي لا يُحبط المرأة..
“أستاذ في الرحمة” من يعامل الحيوان ككائن حي يشعر ويتألم..
“أستاذ في الكرم” كل من يفعل الخير ولا ينتظر مردوده..
أتمنى بدوري أن أكون “أستاذة” في شيء ما، أترك أثرا طيبا في حياة من حولي، فيتذكرني أحدهم بالخير..