(1)
الثانوية العامة.. البعبع الذى كانوا يبثون الرعب فى قلوبنا بذكره.. رسم المستقبل.. أولى خطوات حياة الرجولة بعد طفولة الإعدادية.. لعبة الروليت الروسية التى إما أن ننجو من طلقتها فنحظى بالطب والصيدلة والهندسة، أو نهوى فى دهاليز القول الشهير “ومجموعك ده يدخّلك إيه إن شاء الله؟”
فى هذه الأيام كنا ندرس اللغة الإنجليزية من بداية الصف الأول الإعدادى. كنت متفوقا فى المادة، وفى غمرة لهفتنا لمعرفة الأساتذة الجدد ودعائنا المستمر بأن نحظى بمن يشرحون لا بمن يقبضون، همس لنا زملاؤنا القدامى ”ادعوا ربنا يبقى عليكوا الأستاذ أحمد الزينى فى الإنجليزى”.
(2)
ورأيته.. رجل بسيط.. يحمل دفاتره وأقلامه كأى موظف فى الأرشيف، لا يهتم بآخر صيحات الموضة ولا بتقاليع الشباب.. ابتسامته عزيزة كزخّة مطر فى منتصف أغسطس.. وفى الوقت الذى كان المدرسون يتسابقون فى تضييع وقت الحصة وإبلاغنا بمواعيد الدروس الخصوصية إما بالتلميح أو التصريح أو بالتضييق على أنفاسنا حتى لا نذهب إلى منافسيهم، كان هو يبدأ الحصة من أول ثانية، حتى إنه طلب منا ذات مرة أن نمسح السبورة ونجهز أوراقنا وكتبنا فى الدقائق ما بين خروج المدرس الذى يسبقه وبين وصوله حتى لا تضيع دقائق الحصة فى مسح السبورة وهرجلة الكراسات.
من المرات الأولى نشأت بيننا محبة.. أرى فيه أستاذا عظيما ممّن ورد ذكرهم فى الأساطير، يختلف كثيرا عن “الزلنطحية” و”السبوبجية” الذين تمتلئ بهم المدرسة، لا يلمّح بموعد درس ولا يفرّق فى المعاملة بين تلميذه وتلميذ منافسه، ورأى هو فى هذا الطفل القصير الأسمر الممصوص طالبا متفوقا فى مادته، فقرّبنى إليه وذهبت إلى درسه، ورفض أن يتقاضى مني مليما واحدا، إما تشجيعا لقدراتى العقلية أو تسهيلا -دون أى تلميح- على قدراتى المادية.
نرشح لك: حسين عثمان يكتب: في حضرة الأستاذ.. “من لا يقرأ لا يكتب يا حسين”
(3)
ضربنى الأستاذ “أحمد الزينى” مرتين.. الأولى عندما كان منهمكا فى الشرح فى الفصل، كنت أعرف كل ما يقوله وما سيقوله، ولهذا انهمكتُ بكل غرور مذموم فى الضحك، ومقاطعته، وإلقاء التعليقات، معتمدا على حظوتى عنده ومحبته لى، صبر علىّ كثيرا حتى انفجر وانهال علىّ ضربا بجلدة كانت فى يده صارخا “لو انت مش عايز تتعلم.. سيب زمايلك يتعلموا.. فاكر نفسك شاطر؟”.. أصابنى الخرس وسط صمت عجيب فى الفصل.. لم أغضب منه، بل شعرت وقتها بندم شديد.. وكان درسا مفيدا جدا لى فى حياتى.. وفى الدرس تهكّم على فعلتى ساخرا بعتاب لذيذ.. سامحنى علنا. وسامحته من كل قلبى.
المرة الثانية، عندما ابتلى الله جيلى بنظام تعليمىّ لعين اسمه “التحسين” حيث يمكن للطالب أن يدخل امتحان المادة أربع مرات. كانت هناك مواد معينة أعتبرها تحدّ شخصى لا بد أن أحصل فيها على الدرجة النهائية، مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات، ولهذا عندما حصلت فى اللغة الإنجليزية على درجة 23.5 من مجموع 25 درجة، صمّمت أن أذاكر المادة مرة أخرى لأحصل على الدرجة النهائية رغم أننى كنت أنقص فى الأحياء 14 درجة كاملة ولم أهتمّ.
يومها دفعنى الأستاذ أحمد الزينى بعنف وصرخ “عشان درجة ونص تذاكر وتضيع وقتك.. وسايب مادة ناقص فيها 14 درجة عشان تتفذلك وتجيب الدرجة النهائية؟ فاكرنى هافرح عشان مادتى؟ شوف مستقبلك وبلاش كلام فارغ”.
(4)
كنت فى الجامعة عندما جاءنى الخبر.. مات الأستاذ أحمد الزينى بعد مرض. لم أعد أراه بعد أن التحقت بالجامعة، ولكن محبته فى قلبى لم تقل، وفضله لم تمحه الأيام. كنت أقفز من سيارة إلى أخرى وأدعو الله أن ألحق بصلاة الجنازة.. شعور عجيب.. طوفان من الذكريات والمواقف.. وعدنى أن يسمّى مذكراته فى اللغة الإنجليزية باسمى إن بيّضت وجهه بأعلى درجة بين تلاميذه، ولكن الموت سبق.
لم ألحق الصلاة، فاندفعت إلى المقابر. القرية كلها هناك، وأنا أدفع الجميع لكى أصل إلى القبر الذى يحوطه أهله. وعندما وصلت لم أتمالك نفسى من البكاء.. انهيار تام وسط تعجب أهله المحيطين الذين لا يعرفوننى. لا يعرفون أن من يرقد فى أمان الآن كان نِعمَ الأستاذ والصديق وصاحب الرسالة، علّمنى أن التواضع سمة الكبار، وأن البرميل الأجوف ضجته أعلى. علّمنى أن الرزق آت ما دام من نصيبك، وأن الصمت أبلغ طريقة للرد على الجهلاء. علمنى أن السيرة العطرة هى الزاد الحقيقى للرحلة، وأن عملك الصالح هو الباقى بعد مماتك، وأن حب الناس لا يُشترَى إلا بنية صافية وقلب طاهر، وأنه لا يذكرُ الفضلَ لأهل الفضلِ إلا أهل الفضل.
(5)
أستاذى “أحمد الزينى”.. ربما لم أستطع فى حياتك أن أشكرك على فضلك، وأعلن محبتى لك. ولذا فأنا هنا أشكرك على كل شيء، وأشكرك على رفضك أن تتقاضى مني مليما طوال هذه السنوات، ربما استطعت أن أرد لك جزءا من صنيعك، ولو حتى.. بمقال.