انتهى الموعد النهائي لتقديم أفلام أوسكار أفضل فيلم أجنبي، والتي يجب أن تكون عُرضت في الفترة ما بين الأول من أكتوبر عام 2017 و30 سبتمبر 2018، وهذه السلسلة تضم مجموعة من أهم الأفلام التي قدمتها بلادها لتدخل القائمة الطويلة لترشيحات الأوسكار، تلك القائمة التي سيتم اختصارها بعد إعلان ترشيحات الأوسكار في بداية 2019.
“دوجمان” أو Dogman، فيلم للمخرج الإيطالي ماتيو جاروني، وذلك بعد مرور عشر سنوات على فيلمه السابق “غامورا”، وعُرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي لينافس على السعفة الذهبية، ويحصل بطله مارشيللو فونتي على جائزة أفضل ممثل، ويعرض بعدها في العديد من المهرجانات، بينها مهرجان الجونة السينمائي في مصر، إضافة إلى أنه الفيلم الذي اختارته إيطاليا ليمثلها في قائمة الأوسكار، وأعتقد أنّ فرصه في الوصول إلى القائمة القصيرة للأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي كبيرة، إن لم يحصل بطله كذلك على ترشيح لأوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي.
من أول لقطة من الفيلم نتعرف على الشكل الذي سيأخذه على مدار الساعة والأربعين دقيقة المقبلة، إذ افتُتح بمشهد في محل الكلاب الذي يمتلكه مارشيللو، الذي يحاول تحميم كلب ضخم شرس قادر على ابتلاعه في ثانية، ويظهر الفارق الهائل بين حجمه وحجم مارشيللو الضئيل.
المشهد معروض بشكل كوميدي بالتأكيد لكنه مخيف في ذات الوقت، ومليء بالتحفز والإثارة، ليظل هذا الخليط هو المسيطر بعد ذلك.
مارشيللو تعقيد في غاية البساطة:
شخصية مارشيللو وتعقيداتها وأداء الممثل مارشيللو فونتي هما ما أعطيا ثقلًا لقصة الفيلم، وأضفيا عليه كل هذه الروعة، فالحكاية بسيطة للغاية حول رجل ضئيل الحجم لطيف، يصبح ظلًا لبطل ملاكمة سابق، يساعده في سرقاته رغمًا عنه ويوفر له المخدرات، وفي النهاية يتم توريطه في جريمة فيصبح أمام منعطف، هل يشي به أم يظل على العهد ويفقد في سبيل ذلك الكثير؟.
مارشيللو من الوهلة الأولى يعطي الانطباع بالبساطة، لكن الحقيقة عكس ذلك، فهو بالفعل أب طيب للغاية، تجمعه علاقة قوية بابنته ويتشاركان هواية الغوص، محب شديد للكلاب، يمكن أن يعرض حياته للخطر حتى ينقذ أحدها، يستطيع التعامل معها بسلاسة شديدة أيا كان نوعها.
مارشيللو ليس ملاكًا على الجانب الآخر، فانقياده لسيموني خليط من رغبته في الحصول على المزيد من المال، حتى يستطيع تغطية مصاريف إجازاته مع ابنته، وعيش حياة مرفهة قليلًا عن تلك التي يوفرها له متجر الكلاب، وإعجاب مضمر تجاه متنمر الحي، يجعله يتقبل إهاناته وضربه وجرّه إلى جرائم لا يوافق عليها.
يمكن هنا القول إنّ مارشيللو تقمّص أخلاق الكلاب في علاقته بسيموني، فهو مخلص ووفي له إخلاص غير نهائي، على الرغم من أن الأخير يمثل سيد غير محب ولا عطوف، ولا حتى عادل، وعندما حانت الفرصة لأحد كارهي سيموني للتخلص منه دافع عنه مارشيللو دفاعًا مستميتًا، حتى عندما ورطه كان لا زال لديه أمل في أن يرد له سيموني الجميل في سذاجة واضحة.
التحول الكبير حدث لمارشيللو بعدما تيقن من الخيانة، حينها نبذ أخلاق الكلاب وهذا الوفاء الخالص، ليصبح إنسانَأ يكره وينتقم ويخطط، وتأتي إلينا تتابعات النهاية مليئة بالتحولات الدرامية.
أداء مارشيللو فونتي عن هذا الدور استحق جائزة مهرجان كان التي حصل عليها، فقد استطاع تقديم مشاعر الشخصية المتباينة طوال الوقت دون حاجة إلى كلمات، فواحد من أهم مشاهد الفيلم وهو مشهد مركز الشرطة، والذي فيه اتخذ أهم قرار غيّر مسار حياته لم ينبس خلاله بكلمة، ليعبر بوجهه عن حيرته ومراحل اتخاذه للقرار.
فيلم يصلح لكل زمان ومكان:
بعد عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي، سأل أحد الحضور الممثل مارشيللو فونتي عن مكان وقوع الأحداث في إيطاليا، والمستوى المادي والاجتماعي للبطل أو المنطقة التي يسكن ويعمل بها، فكانت إجابته أنّ تلك المنطقة تعبر عن كل مكان وزمان، فمن الممكن أن تقع ذات الحوادث في أي بلد حول العالم، من وجود بلطجي الحي الذي لا يستطيع السكان الخلاص منه، وتضارب ردود الأفعال حوله، بين من يكرهه ويحاول التخلص منه، والضعيف الذي يحيا في ظله على فتاته.
حتى ملابس الشخصيات كانت دولية تمامًا، ولو افترضنا أن هذا الفيلم صامت يمكننا الاعتقاد بسهولة أن أحداثه تقع في أي جزء في الكرة الأرضية، فلا توجد إشارات إلى الثقافة الإيطالية كما تعودنا في أفلام أخرى، كانت مغروسة تلك العلامات في نسيج السيناريو الخاص بها وصورتها.
تصوير الفيلم أيضًا أتى بسيطًا بلا أي زخرفة بصرية، تلفت الانتباه عن القصة المعروضة أمامنا وتحولات الشخصية الرئيسية، لأن هذه القصة والتحولات هي البطلة الأساسية للفيلم وأهم ما يجب أن يركز المشاهد انتباهه عليه.
أتت “باليتة” الألوان الخاصة بالفيلم واقعية هادئة، مع استخدام عدد محدود من الألوان الأساسية كما قال مدير تصوير الفيلم نيكولاج برويل، وتم تصوير عدد من المشاهد بالكاميرا المحمولة باليد لزيادة واقعيتها.
في النهاية فيلم Dogman من أجمل أفلام 2018 بلا جدال، عمل عابر للقارات، يمس روح الإنسان أينما كان، واختيار مارشيللو فونتي بوجهه الذي يجمع بين الطفولية والدهاء كان عظيمًا، ودونه لفقد الفيلم الكثير من مميزاته.