عندما تقرأ عنوان الفيلم الوثائقي Robin Williams: Come Inside My Mind، وتشاهد أول دقيقتين منه، تشعر وكأن روبن ويليامز يدعوك بالفعل لرحلة داخل عقله، فالفيلم يبدأ بسؤاله في إحدى اللقاءات التليفزيونية، “كيف ترتجل على المسرح بهذه السرعة؟ أتفكر أسرع من بقية البشر؟ ماذا يحدث داخل عقلك؟”، فقام “ويليامز” من كرسيه وأشار بيده على عقله، وبدأ يتحدث نيابة عنه، لتكون هذه بداية الرحلة، مع عقل روبن ويليامز الفذ، صديقه اللدود الذي قتله في النهاية.
يحكي “ويليامز” في بداية الفيلم عن طفولته، كيف أنه كان طفلا وحيدا، لأب يعمل بشركة سيارات، وأم تعشق الكوميديا، فكان يتنقل في البلاد بسبب عمل والده، فلا يستطيع تكوين أصدقاء، فكانت والدته هي صديقته الوحيدة، بجانب ألعابه، جنود صغيرة، يؤلف من خلالهم شخصيات متعددة، ويحكي معهم وكأنهم جمهوره.
يروي خلال الفيلم قصته بنفسه، فقد اعتمدت مخرجته “مارينا زينوفيتش”، على فيديوهات حصرية من حفلات “ويليامز”، بالإضافة لكواليس أعماله، ولقاءاته التليفزيونة، بجانب محادثات هاتفية وفيديوهات لم تعرض على الشاشات من قبل، قام أصدقاءه بعرضها في الفيلم لأول مرة، ليكون هو الراوي لحكايته، وهم فقط يكملون ما نقص من معلومات لم يرد “ويليامز” التحدث عنها، مثل مشاعره الشخصية، التي كان نادرا ما يعبر عنها، فهو كان مبتسما طوال الوقت، ورده على كل سؤال، “كل شيء بخير”.
نرشح لك: صور: ظهور جديد لأحمد الفيشاوي وزوجته في الإسكندرية
تحدث “ويليامز” خلال الفيلم بأسى عن وحدته كطفل صغير، فقد صدم عندما علم في الثامنة من عمره بأن له شقيق من أبيه، وشقيق من والدته، ولكن عندما تعرف عليهما، لم يكونا بهذا القرب الذي كان يتمناه، فقد كانت أيام الترابط الأخوي قد ولّت، دون أن يعلم أيا منهما بوجود الآخر.
كبر “ويليامز” وأراد تعويض ما فاته في الصغر، فدرس التمثيل في جوليارد، وأصبح عاشقا للمسرح، وبدأ في تقديم العروض الكوميدية المباشرة مع الجمهور، بجانب الكوميديانات الشباب وقتها، “بيلي كريستال”، “إليان بوزلر”، وغيرهم، وقد سطع نجمه سريعا، فأصبح يراقبه الجميع، لأنه كان الكوميديان الوحيد الذي يرتجل على المسرح، وينزل ليتحدث مع الجمهور، ولا يقوم بإلقاء النكات المجهزة كما يفعل البقية، ولم يكن يعلم وقتها أنه يؤسس لشكل جديد للعروض الكوميدية في العالم.
شعر “ويليامز” خلال تقديمه لعروضه الكوميدية بأن الجمهور هو شقيقه وصديقه الذي لن يتركه أبدا، وكان يشعر الجمهور بهذه الطاقة، فيبادل “ويليامز” المحبة، والدليل على ذلك حديث صديقه المقرب، الممثل “بيلي كريستال”، الذي قال عن “ويليامز”، “كنت أشعر بأن “روبن” يحتاج لهذا الحضن الزائد، هذا الحضن من الغريب الذي لا يعرفه”، بينما قال عنه الكاتب “بينيت ترامر”، “كنت أكتب النكات لـ”روبن” في بداياته، كان يعرف الناس بي، ويقول عني صديقه المقرب، مع أنني كنت لا أعرفه تمام المعرفة، أعتقد بأنه كان يقول ذلك، لأنه كان بالفعل يحتاج لأن يكون له صديق”.
لمع نجم روبن ويليامز في أواخر السبعينات بعد اشتراكه في بطولة مسلسل “Mork and Mindy”، فتسابق الجميع لمعرفته ومصداقته، وتمت دعوته للعديد من الحفلات، وحصل على مال لم يكن يحلم بالحصول عليه، وكل ما سبق هو الخلطة المثالية للوقوع في فخ المخدرات.
شرب “ويليامز” الكحول بشراهة، وأدمن الهيروين، وكان يقدم في هذا الوقت العديد من العروض الكوميدية بنشاط منقطع النظير، ثم فجأة يفقد الوعي تماما، وكان في هذا الوقت متزوجا من زوجته الأولى “فاليري”، والدة ابنه الأكبر “زاكري”، والتي قالت عن هذه المرحلة، “الشهرة شتتت انتباه “روبن”، فعلمت بأنه كان يشرب المخدرات، وهو كان يحب النساء كثيرا، فكان يقال أنه كان يأخذ كل يوم أجمل فتاة تحضر عروضه الكوميدية، ويخرج معها من العرض، ولا تعود الفتاة لأقاربها أو حتى خطيبها الذي كان معها مرة أخرى، ولم يكن لدي مشكلة في أي من ذلك، كنت أريد له أن يحصل على التوازن الذي يريده، المهم أن يعود إلى المنزل في النهاية”.
عاش “ويليامز” حياة الصخب، وفي يوم من الأيام ذهب إلى استوديو مسلسله الناجح وهو لا يستطيع فتح عينيه، فقال لزميلته “بام دوبر”، “قضيت الليل كله أتسكع لأجد صديقا أسهر معه، وجدت “روبرت دي نيرو” مع إحدى السيدات، ومنع أي شخص من التحدث معه، بينما وجدت “جون بيلوتشي” مغشيا عليه من شدة الشرب، فتركته وذهبت حتى لا أزعجه”، فقالت “بام”، “لقد مات بيلوتشي بالأمس”.
هذه كانت أول صدمة حقيقية يتعرض لها “ويليامز”، فوقتها لم يعلم ماذا يقول تعليقا على وفاة صديقه فجأة بجرعة زائدة من المخدرات، سوى قوله، “لقد كنت معه بالأمس”، فقالت “بام”، “ولكنه مات بالأمس”، فكرر “ويليامز”، “ولكنني كنت معه بالأمس”، فقالت “بام”، “أرجوك كفى مخدرات، إذا فعلت ذلك بنفسك ومت، سأبحث عنك وسأقتلك”، فابتسم لها قائلا، “لا تخافي، لن أفعل”.
نرشح لك: رأي مريم نعوم في الدورة الثانية من مهرجان الجونة
أصبح “ويليامز” هو شاهد العيان على وفاة صديقه الصدوق الكوميديان “جون بيلوتشي”، فقرر أن يتوقف عن تناول المخدرات، ولكن فاجأه خبر حزين آخر، فقد توقف عرض مسلسله “Mork and Mindy”، فترك لوس أنجلوس، وذهب مع زوجته “فاليري” للعيش بمزرعة بعيدا عن أعين الناس.
كان “ويليامز” يعيش حياته بالمزرعة مع زوجته “فاليري” وابنه “زاكري” دون وجود أي نظام لأي شيء، فهم كانوا يعيشون حياة فوضوية، فقررت “فاليري” الاستعانة بمربية الأطفال “مارشا” التي أدخلت النظام على حياتهم، واعتنت بالطفل الصغير، فالتفت “ويليامز” لعمله مرة أخرى وهو مطمئن.
“بعد عشر سنوات من الزواج، شعرت بأنني لست مع ويليامز، كنت أحب فيه روح المغامرة، كان زواجنا مغامرتنا سويا، ولكن الآن أصبح ليس معي، ولا أريد حياة الأضواء، فحصلت على الطلاق”، وأخذ “ويليامز” الطفل الذي كانت تعتني به “مارشا”، فأصبحت مربية الطفل، ثم ترقت فأصبحت مساعدة “ويليامز”، فوقع في حبها وتزوجها، وللأسف قالت الصحف بأنني طلبت الطلاق لأن “ويليامز” كان يخونني مع “مارشا” خلال زواجنا، وهذا لم يحدث، ولكنني رفضت التحدث إلى الإعلام في ذلك الوقت، فاكتفيت بالصمت، بجانب حزني لأن مغامرة “مارشا” معه بدأت بهذا الشكل السيء”، قالت “فاليري” زوجة “ويليامز” الأولى.
رتبت “مارشا” المشاهد المبعثرة للفيلم الطويل الذي كان يعيشه “ويليامز” كل يوم، فشعر أخيرا بأنه ينعم بالهدوء بعيدا عن المسرح، واستقر في منزله وأنجب طفلين، وكونه أبا أثرى مادته الكوميدية، وبدأ يظهر في أدوار الأب والمعلم المرشد في أفلامه، فازدهرت حياته المهنية والعائلية من جديد.
للأسف لم يشعر روبن ويليامز بأن هذا النجاح كافيا، فهو كان مازال يشعر بداخله بالوحدة، لم يكفيه الزوجة والأبناء، فكان يجول في البلاد مع الجيش الأمريكي ليقدم لهم عروضا كوميدية، كما كان يزيد من عروضه الكوميدية في أمريكا، لدرجة أنه صنع التاريخ بتقديمه عرض كوميدي على مسرح MET استمر لساعتين متتاليتين، فابتعد عن منزله وعائلته كثيرا، حتى طلبت “مارشا” زوجته الثانية الطلاق بعد 11 عاما من الزواج.
“كنت أرى أن والدي شخص معطاء، يحب الجميع، وكنت أشعر في بعض الأوقات بأنني أناني، أريد أبي لنفسي، فهو كان في بعض السنوات يقضي معنا بالمنزل ستة أشهر فقط، وفي بعض السنوات أقل، وربما أكثر في بعض السنوات، تعودنا على ذلك، ولكنني كنت أتمنى أن أقضي معه أطول وقت ممكن”، قال “زاكري” ابن “ويليامز” الأكبر.
انتكس “ويليامز” وعاد للإدمان مرة أخرى، فهو كان يقول، أنه يشرب ليختبيء من كل شيء، كما أنه بعد الطلاق قام بزيادة عدد عروضه الكوميدية، حتى يقابل الناس ويضحك معهم كل يوم، فجميع المقربون منه كانوا يقولون، أنهم يشعرون بأن “ويليامز” حيّ فقط على المسرح، أي أن عمره، هو فقط عدد الساعات التي قضاها واقفا أمام الجمهور.
قبيل إحدى العروض، شعر “ويليامز” بالتعب، فطلب أن يخضع للكشف الطبي، واكتشف بأنه لا بد وأن يجري عملية تركيب صمام في القلب على الفور، فدخل غرفة العمليات، وقال صديقه “بيل كريستال”، أن “ويليامز” كان يضحك مع الجميع ولكنه كان يرى في عينيه التوتر من نتيجة العملية.
خلال تواجد “ويليامز” في غرفة العمليات، أرسلت له 15 رسالة صوتية، حيث ابتكرت شخصية ميكانيكي له لكنة مميزة في الحديث، عمله هو تغيير صمامات القلب، فكنت في كل رسالة، أشرح له ما يقوم الميكانيكي بعمله في جسده حاليا، حتى يصبح قلبه جديدا تماما، وبعد يومين من إجراؤه للعملية، وجدته يهاتفني وهو يضحك، ويشكرني على هذه الرسائل، التي كانت أول شيء يسمعه ويضحكه بعد هذه الأزمة”، هكذا قال “بيل كريستال”، عن المفاجأة التي أعدها لصديقه حتى يخفف عنه أزمته.
بعدما تتابع خلال الفيلم حياة “روبن ويليامز” بهذه التفاصيل الدقيقة التي يرويها على لسانه، بجانب شهادات أصدقائه، ستصبح مدركا لأنه رجل أكثر ما يخشاه هو أن يجلس وحيدا دون أنيس في منزله، ودون جمهور يصفق له في الخارج، فهو لم ينهي أي من زيجاته السابقة، بل كانت تنتهي رغما عنه، ولذلك لم يظل وحيدا لفترة طويلة بعد طلاقه من زوجته “مارشا”، فقد تزوج بعدها مباشرة زوجته الثالثة “سوزي”، التي قضت معه ثلاث سنوات فقط قبل أن يقرر الانتحار.
بداية النهاية كانت عندما تم ترشيح “ويليامز” لبطولة المسلسل الكوميدي “The crazy ones”، حيث كان يشعر دوما بالإرهاق، فذهب إلى الطبيب عدة مرات، ولكن دون جدوى.
كانت حركات “ويليامز” خلال تصوير العمل بطيئة، وردود أفعاله ليست بخفة الدم التي تعود عليها الجميع، حتى أن زميلته، الممثلة “بام دوبر” قالت عنه، “نظرت في عيني “ويليامز” فلم أجد فيهما هذا الوهج الذي رأيته عندما قابلته أول مرة، منذ أكثر من عشرون عاما، لقد انطفأ، أصبح يشبه تمثال الشمع”.
لم يعلم أحد وقتها أنه قد تم تشخيص “ويليامز” بمرض عصبي، حيث انتشر في جسده جسيمات ليوي، التي تفقد الاإنسان السيطرة على كل شيء، ففي بعض الأوقات يتحرك الجسد بسرعة، وفي بعض الأوقات يتحرك ببطء شديد، وهذا ما حدث لـ”ويليامز”.
يؤثر المرض أيضا على الذاكرة، كما يجعل المخ يضخ أفكارا سلبية في عقل المريض، من الممكن أن تؤدي في مرحلة متأخرة للخرف.
يقول “بيلي كريستال”، “قابلت “ويليامز” قبل وفاته بفترة قليلة، وشعرت بأنه منزعجا من شيء ما، فكان لا يضحك مثل كل مرة أراه فيها، وفي نهاية لقاءنا قلت له أنني سأسافر في إجازة لمدة شهرين، فتمنى لي السلامة، وعندما هممت بتركه، نادى عليّ مرة أخرى وبكى، وقال لي أنه أصيب بداء باركنسون، قال لي “أنا خائف من هذا المرض”، وهذه كانت المرة الأولى التي يخاف فيها “ويليامز” من شيء”.
وجهت الصحف انتقادات شديدة لآداءه “ويليامز” في مسلسل “The Crazy Ones”، حيث قالوا أنه كان جامدا، وأنه لم يصبح “روبن ويليامز” الذي اعتادوا رؤيته، فتوقف عرض المسلسل، ووقتها عرف “ويليامز” أن هذه هي النهاية، سيتركه جمهوره شيئا فشيئا، خاصة عندما يفقد القدرة على الحركة بشكل طبيعي، وعندما يفقد جزءا من ذاكرته أيضا.
كلما مر يوم، كان يعلم “ويليامز” بأنه يفقد جزءا من عقله، دون أي سيطرة منه على أي شيء، يرى نفسه ينهار أمام عينيه، وليس بيديه حيلة سوى الاستسلام، فعقله الذي جعله نابغة من نوابغ الكوميديا، أصبح اليوم عدوه الوحيد، وسيقتل أحدهما الآخر.
قرر “ويليامز” أن ينتصر على حرب الأفكار التي شنها عليه عقله، فأخبر أبناءه بأنه يحبهم، ثم هاتف صديقه “كريستال” في سفره ليقل له، “هل تعلم أنني أحبك بحق؟”، ثم قضى يوما رائعا مع زوجته “سوزان”، وفي الصباح التالي، يوم 11 أغسطس لعام 2014م، شعر بالانتصار أخيرا، عندما أحضر حزاما وربطه في رقبته، ليخنق عقله، بكل ما فيه من جسيمات ليوي، خنقها جميعها، فماتت، وهو اختفى وهجه وصعد بهدوء إلى السماء.
وهذا كان بالضبط ما حدث داخل عقل نابغة الكوميديا الراحل “روبن ويليامز”.