حسن العتماني
“عارفَه
ساعات بعاتب القصيده
زى اللى اتقطع رجله
فسِهِي
وهرش لعكازه”
من هذا الإخلاص والتماهي الكبيرَين مع القصيدة؛ يطالع الشاعر خلف جابر في ديوانه “أربعاء أيوب” ذاته المتأججة بالحب والموت، ومع اعتذاري للغة والشائع، أظن أنّ ما هو ضد الموت ليس الحياة؛ وإنما الحب.
وبما أنّ الحب لدى الشاعر هنا يجسد الفراق فقد انتقل الحب بالضرورة إلى معادله الطبيعي ليصبح موتًا، ومن هنا أزعم أننا أمام ديوان “الموتَتَيْن”!.
إذن الموت والموت هما التعبير الأدق لاستشراف معالم هذا العمل من حيث موضوع التناول.
“كان يخاف الدوس على السكه ويقول
كل الحصى مخاليق
مانفخش فيها الروح”
حاملا مِخلته
” طول عمرى ماشى فى سكه مقطوعه
برجول إبر
لكن ناقصهم خيط”
ينعى اغترابه بهذه المقابلة البيئية البديعة وبهذا التداخل الدلالي الرائق
أنهكه الرقص والنواح فتوقف معاودًا حديثه المستمر مع البحر
“قلبى..
يشبه لبيت مركون على كتف الرصيف
مكتوب عليه يودع كل من سافر
ويرتعش لحظة خروج القطر
رغم انه مالهوش فى السفر”
كيف أفضى الشاعر للبحر وأفضى البحر له؟، من أين له هذا الشأن مع البحر وهو ابن الأرض والنخيل والشمس والشجر.
“أبويا كان يشوف أبو القردان ملاك
كِره الأراضى البور
فقاسمنى زرع الأرض من بدء الميلاد”
ربما رغم نصه شجري الهوى نخيلي البصيرة، إلا أنّه بذل شوطًا ملموحًا في أن يتجاوز بيئته أيضًا، أو إنّ شئت الدقة قل وسَّع إطار البيئة وناقش مفهومها واشتبك معه اشتباكًا شاعريًا، وإن حمَل هذا الاشتباك في طياته نقدًا جماليًا أيضًا، أرى أنّه يستدعي التوقف عنده وإبراز ملامحه بشكل متكامل، وربما أقوم بذلك باستفاضة في سياق آخر.
“الورد
جايز يمثل كتير لاتنين التقوا صدفه
وممكن يكون هدية حب ع الكورنيش
لكن أكيد
لستّ بتجبرهم يشتروا
كان أكل عيش”
” أنا وانت واحد صحيح
لكن المسافة مابينى وبين صورتى ف مرايه”
نلحظ بشكل مباشر طغيان الصوره السينمائية والمشهدية على جل الديوان.
“يطلع ورايا كلب ربيته
يطلع ورا الدفنه الشجر والطير
يتشعبطوا الرضع فى ديل النعش”
“اجعلينى عيل
بيكتب الواجب ٧مرات
ويلتفت..
ينساه”
إنّ ما يميز الصورة السينمائية والمشهدية فيما مضى، أنّها متحركة دائمًا لا تلبث أن تتوقف إلا لتتحرك!.
مسبوكة الانتقال غير متكلفة، بسيطة وثاقبة
“الشمس بريزة عيل
نسي امبارح
وعرف إن عين العقل
ف ضهور الجنان
وقت أما رف الرهان ع اللى جاى بكره
طلعت مانزلتشى
ولساه بيتمنى لوكسب الرهان”
ما يميز ديوان الموتتين أيضًا هو دقة التعبير، الدقة بشكل ملفت، وكمثال لا كحصر؛ عبر هنا بما أراه أنضج ما يمكن أنّ يعبَّر به عن كواليس علاقة بين جنوبي وشمالي، وهو من التعبيرات الأجمل في العامية حسبما أرى وأظن.
“إزاى شاعر صعيدى
إتعود يكتب للغلابه والشجر
هيكتب عن الشيكولاته اللى بتحبها البنت
وإزاى هيعرف يحتويها
إذا كان مايعرفش طبع الشوارع الأسمنت”
ألحظ هنا
“خارج من الموت للحياه
منتظر للموت
فازاى احب الحياه
وانا ابن موت فى الأساس”
إنّه ربما يتفق الشاعر معي أننا أبناء حياة في الأساس ولسنا أبناء موت، لكن طغيان حالة الموت على الديوان وعلى تجربة الكاتب جعلته ضد هذا الفراق بشكل متطرف الرومانسية!.
“وانا..
لو قشه نايمه فى حضن ريح
سكنت عيونى
تلقى الدموع مش من وجع
لكن..
يصعب علينا نفرق الوليفين”!
وجعل بينه وبين الفراق حالتا اضطراب وتدافع دائمتين، ما نتج عنه تكرار لبعض تعبيرات الفراق الدلالية كتأكيد للحالة وعجز عن الخروج منها.
“فقلت أخاف أبكى على بعادك
فتنزلى فى الدمع”
“شلتك فى عينى
لكنى خفت من البكا
تخونّى مره فتفارقى العيون”
كان لزامًا أن يخرج الشاعر من تجربة الموت والموت هذه بفلسفة ما، وهو ما لم يفته قطعًا، ومثالًا لاحصرًا
“مين فينا يكدب فى اللقا
بيبقى أصدق فى الفراق”
“الموت طريق منفى البشر تانى
ياللى انت شايف فى القمر طاقه
كانت النجوم
خربشات ضافر ملاك رافض النزول”
“وكل طير من حقه يرسم سماه”
“شكرا لشاعر
كتب قصيده فى بنت بوصفها
بعد الفراق
ماكدبش ع الرفقان وقال-قصيده-
وان اللى سال ع الرمال
حبر لقلم عايش حياة الذئب
وهى صيده”
“كان كل يوم يحلم بغيط من عنب
يزرع
ويمد إيده للحصادمايطول
فأمر عبيده
يسهروا جنب السرير
حتى إذا يحلم
يجمعوا المحصول”
وعلى طريقة أزهار الشر للفرنسي الكبير بودلير، يدعو لرؤية الأشياء بشكل مختلف كما هو عهد الشعراء، لكن بتعبير ضارب في جذر التاريخ لا يدل فقط على مصرية خالصة، وإنّما يدل على طبخة خبيرة فيها مقادير منضبطة الحس والحدسط تجمع بين الحاضر والماضي والحب والحضارة ورغبة المصري الغريبة فى الخلود!.
نعم هذه الرغبة الدائمة في التحنيط سواءً كان المحَنَّط مَلكًا أو لحظة إلهًا أو شعورًا، المصري لا يريد لشيء فيه أنّ يموت، هو يكره الموت، يكره الفراق وكلاهما موت، لذلك يوثّق ويحنط كل شيء.
“وبلاش تشوف فى الواد اللى راسم ع الحيطان قلبين وسهم بإنه ساذج
لكنه جين فرعون
إتعود التدوين على الجدران”
ومعاقبًا أعضاءً لأنها من المفترض أن يكون فوقها محل الذكرى، فلما لم يجد فوقها محل الذكرى لصب الغضب عليه، قام بصب غضبه على العضو نفسه، وهذا يشي بمدى الخداع والغضب الكبيرين في هذه العلاقة.
يقول في نص “المدنة”
“ولإن قلبى إنسان طبيعى
فعادى لما النور طرف عنيه عماه
ولإنه..
مكانش جاب الدبلتين
وقت الفراق
قلع صباعه ورماه”
وبنص المدنة بدأت السبحة المكونة من 337 مقطعًا، وكأن الشاعر يريد أنّ يقول إنّ فراق محبوبته كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، فانفرطت حياته كلها كالمسبحة، وأنّ هذه الحالة تمثل المسبحة للعجوز أو للشيخ أو المتدين عموما، بما في هذا من التصاق كبير وتذكر دائم وسطوة كبيرة للمسبحة على حاملها.
و”السبحة” كما قلت عبارة عن ثلاثة وثلاثين مقطعا، لاحظت أن كل ثلاثة مقاطع يتحدثون عن شيء بعينه، وكأن الشاعر يسبح على إصبع بثلاث عقلات.
وكطبيعة المسبحة كوسيلة للاستغفار؛ سألت نفسي هل مقاطع المسبحة في مجموعها تريد أن تقول “أستغفر الله من العشق” مثلا؟، هل تمثل السبحة ندمًا ما؟، وما إنّ شرعت في قراءة المسبحة حتى وجدت كتابات الشاعر لو نطقت لقالت: “اللهم إنى أعوذ بك من الفراق”!
“إجعلينى عيل
بيكتب الواجب ٧مرات
ويلتفت
ينساه”
متباكيا على طلل الفراق فى تصوير بديع
“كنا زى أعمى وحيط
رغم انها مش حاسه مابيه من مشاعر
لكن بتهديه السبيل”
مغازلا هذه المحبوبة فى مشهدية عالية الوقع جامحة الخيال منطقية التكنيك
“الشمس
برتقانة من شجره فى الجنه
وقعت من إيد ملاك لحظة ماشافِك”
مقارنا ومنحازا للحب فى بيئته هاجيا الحب فى بيئة محبوبته
أو إن شئت الدقه “مهاجما محبوبته”
“الحب فى بلدنا
يشبه نجيله نبتت فى القلب
مالناش دخل فيها
لااخترنا ليها الأرض
ولا الزمان
ولاحتى فاكر يوم بنسقيها
بتمص عصب الأرض
وتشب يم السما”