على إثر توصية للمؤتمر العام لليونسكو، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة (عام ١٩٩٣) يوم الثالث من مايو، والذى يوافق اليوم / الأحد «يوما عالميا لحرية الصحافة». وذلك ليتذكر الناس في العالم أجمع لماذا عليهم أن يتمسكوا بحرية الصحافة.. في السطور القادمة حكايا تستدعيها المناسبة والقضية التي مازالت «رغم كل الشعارات» لم تأخذ مكانها الصحيح بعد في مجتمعاتنا العربية كافة.
في عام ١٩٦٩ كان ريتشارد نيكسون «الجمهوري» قد وصل إلى الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض، بعد أن نجح فى استغلال مخاوف الناخبين (من الشيوعية.. إلى العنصرية) وكان شعار أمن الدولة أو «الأمن القومى» بالتعبير الأمريكى هو التعبير المفضل عند رئيس الدولة العظمى العائدة بخسارتها من فيتنام.
ثم كان عام ١٩٧٢ أن فاز الرجل بالرئاسة لفترة ثانية «بأغلبية ساحقة» قبل أن تتمكن «قصة صحفية» من الإطاحة به وإخراجه من البيت الأبيض في التاسع من أغسطس ١٩٧٤، بعد أن «فضحت» القصة «الصحفية» تورط إدارته مع حزبه في التستر على عملية تجسس على مقر الحزب الديمقراطي في فندق «ووترجيت»، وهو الأمر الذى انتهى بفضيحة أخذت اسم الفندق، قبل أن تصبح فى القواميس رديفا اصطلاحيا لكل فضيحة.
تقول تفاصيل الحكاية التي باتت من أدبيات الصحافة، كيف نجح صحفيان شابان فى الواشنطن بوست (بوب وودوارد ومايكل برنشتاين) في كشف جوانب الفضيحة بعد عامين كاملين من التحري والتحقيق في سراديب السلطة الغامضة الخطرة (وهى قصة تستحق بذاتها أن تروى ليتعلم منها صحفيو تصريحات الهواتف والمكاتب المكيفة). ويعرف كل من تابع القصة المثيرة أن الصحفيين اعتمدا في تحقيقاتهما على مصدر احتراما لشرف المهنة لم يفشيا سر اسمه أبدا، رغم كل الضغوط الهائلة التي تعرضا لها، مكتفين بأن يرمزا إليه بما سموه «deep Throat».
(بعد ثلاثة عقود كاملة، وبعد أن تجاوز الرجل التسعين من عمره خرج صاحب «الحنجرة العميقة» ليكشف عن نفسه. وليعرف الجميع بأنه «مارك فيلت» والذى كان الرجل الثانى في مكتب التحقيقات الفيدرالى وقتها، وأنه تتلمذ على يد مديره «إدجار هوفر» الذى حافظ على استقلالية المكتب (أمام البيت الأبيض) لأربعة عقود كاملة قبل أن يموت في مكتبه فى مايو ١٩٧٢).
في تفاصيل الفضيحة التي كشفها الصحفيان، أن خمسة من بين أعضاء حملته الانتخابية زرعوا أجهزة تجسس فى مقر الحزب الديموقراطي المنافس، وأن حزبه قام بألاعيب كثيرة لإثارة الوقيعة ونشر الخلاف بين أعضاء الحزب المنافس. فضلا عن أن وحدة تابعة للبيت الأبيض قامت «بدعوى الحفاظ على الأمن القومى» باقتحام مكتب طبيب نفسى كان قد نشر وثائق «سرية» عن الحرب الفيتنامية.
أرجوكم لا تقارنوا أيا مما قرأتم في تفاصيل القصة (التي أسقطت الرئيس) بما هو مألوف ومستقر في أنظمتنا العربية، والتي تعرف كيف من الطبيعي أن يتجسس رجال الحاكم «المتماهي مع الدولة» على معارضيه، وكيف يستخدم هذا الحاكم الجهاز الأمني لـ«الدولة» التي هى بحكم التعريف «دولة كل المواطنين» في مواجهة معارضيه.
فقصة «ووترجيت» التي أسقطت الرئيس الذي تجرأ رجاله فارتكبوا «تلك الكبائر» حدثت على الناحية الأخرى من الأطلنطى «الواسع»، وكانت في تلك البلد «الكافر» الذى نشتمه كل يوم، ونتهمه كل يوم «بالتآمر»، ثم نتفاوض مع مسئوليه كل يوم لنشترى السلاح «المتقدم»، أو نقف على أبواب سفاراته لنحصل على تأشيرة سفر للعلاج فى مستشفياته «المتقدمة»، أو للدراسة في جامعاته التي تحتل المكانة الأولى بين جامعات العالم كله، دون أن ندرك أن وراء ذلك كله حرية وديموقراطية، كان أحد شواهدها ذلك الذى قرأناه فى الواشنطن بوست في ذلك اليوم البعيد، وكان سببا في «إسقاط الرئيس»
في عام ٢٠٠٤ في وقت كان العسكريون الأمريكيون فيه مزهوين بما بدا انتصارا في العراق، فاجأت «النيويوركر» (توزع قرابة النصف مليون نسخة أسبوعيا) قراءها، بل والعالم كله بتحقيق لكاتبها الأشهر سيمور هيرش، يكشف فيه عن فضائح «سجن أبوغريب»، بالضبط كما فعل أواخر الستينيات حين كشف بالأدلة مذبحة May Lai (حيث قامت مجموعة من الجنود الأمريكان لمدة يوم كامل بإبادة جميع سكان قرية فيتنامية تدعى «صن ماى» عرفت على خرائط الجيش الأمريكى بـMy Lai 4).
يومها لم نسمع أن «الصحفي» الذي كشف فظائع ارتكبها جنود أمريكيون (زمن الحرب) قُدم لمحاكمة عسكرية، أو تم التحقيق معه أو حتى إيقافه بتهمة «إثارة المشاعر»، أو المساس بالأمن القومي، أو إهانة المؤسسات.. أو ما إلى ذلك من لائحة طويلة للتهم التي يمكن أن يواجه بها الصحفي والصحيفة والناشر، أو «البرنامج» في مصر فى زمن ما بعد ثورة شعبية كانت تضع «الحرية» أحد مطالب ثلاثة تتصدر هتافاتها.
حكايا سيمور هيرش مع «الصحافة المحاسِبة» التي تعمل على إيقاظ مجتمعها طويلة وقديمة، وتعود إلى زمن هيستريا المكارثية والتفرقة العنصرية التي ضربت الولايات المتحدة فى منتصف القرن الماضي.، حين ذهب الصحفي المبتدئ إلى أحد مخافر الشرطة لتغطية حادثة مصرع سجين أسود خلال محاولته الهرب (كما كانت تقارير الشرطة الرسمية قد قالت وقتها) وهناك سمع شرطي يحكي لزميله «متباهيا» كيف أوهمَ السجين أنه قد أفرج عنه ثم أطلق النار عليه من الخلف وهو يبتعد، ثم ادعى أنه كان يحاول الهرب.
لم يتردد الصحفي الصغير في نشر القصة الصادمة، ثم لم يأت عام ١٩٦٩ إلا وكان قد صدم قراءه مرة أخرى بأول تقرير عن مذبحة «ماى لاى» في جنوب فيتنام، ليصبحَ بعد ذلك أهم صحفيي التحقيقات في أمريكا، وليفوز بجائزة «بوليتزر» عن كتابه عن الموضوع، والذي أتبعه بكتاب أخطر كشف فيه تواطؤ الجيش الأمريكي بهدف تغطية مسئولية ضباطه عما ارتكبوه.
لم تكن تلك هى المرة الوحيدة التي اصطدم فيها هيرش مع مؤسسات «السلطة»، إذ هكذا الصحافة الحقيقية «بالتعريف» فقد ساهم في كشف قضية المرض الغامض الذي أصاب بعض الجنود الذين خاضوا حرب الخليج الثانية فى كتاب حمل عنوانا صادماً Against all enemies: Gulf war syndrome. The war between America.s ailing veterans and their government. ثم كان أن نشرت له النيويوركر مقالاً في ٢٥ ألف كلمة احتل صفحات عدد بأكمله من المجلة الشهيرة، عرض فيه تفاصيل المذبحة التي ارتكبها الجنرال ماكافري قائد الفرقة ٢٤ الأمريكية يوم ٢٠ مارس ١٩٩١ «بعد وقف إطلاق النار» في حرب الخليج الأولى، التي راح ضحيتها مئات من العراقيين، ليس فقط من بين الجنود الذين كانوا قد شرعوا في الانسحاب ولكن أيضا بين الجرحى والأسرى المدنيين الذين كانوا على متن سيارات الإسعاف، وهو الاتهام الذي يعد بكل المقاييس جريمة حرب، وبالطبع لا داعي لتكرار الإشارة إلى أننا لم نسمع من يتهمه يومها «بالإساءة إلى صورة الولايات المتحدة في الخارج» أو تهديد الأمن القومي.
كما في قصة «ووترجيت» الشهيرة، تجسد قصة الصحفي المخضرم سيمور هيرش الطويلة ثنائية «الصحفي والسلطة». وتبين كيف أن «حرية» الصحافة المراقِبة للسلطة هى بحكم النتائج في صالح المجتمع والناس.. والبلد في نهاية المطاف، وتكشف لنا لماذا تتقدم المجتمعات التي تقبل أن تدفع «ثمن» حرية الصحافة والنشر، عن تلك التي تتصور أن دور الإعلام هو «تربية» الجماهير، وتعبئتها خلف أهداف الدولة.
في الواقعتين كان مناخ الحرية «الكاملة»، والعمل «الحقيقي» الدءوب، والشجاعة في مواجهة أصحاب النفوذ، وراء القصة الصحفية، وقدرتها على كشف ما أراد له البعضُ أن يظل خافياً.
تلك الحرية التي هى ــ كما قلت في هذا المكان مائة مرة ــ ليست «ريشة على رأس الصحفيين»، كما يحاول البعض أن يقول مستنكراً تمييز يدعيه، فتلك الحرية هى في حقيقتها «حق للمواطن» لا للصحفي في أن يعرف. ولولاها، ما كنا عرفنا بفضيحة ووترجيت، ولا ما جرى في «أبوغريب»، ولا «ماى لاى»، ولا حتى ما جرى في صبرا وشاتيلا لو تذكرون.
ببساطة، لولا هذه الحرية، التى لا يُرهِبها نفاد صبر الذين في السلطة، ما عرف المواطن الأمريكي ما ينبغي أن يعرفه.. وما كان الرئيس بجريرته قد غادر البيت الأبيض. بل وربما ما كانت أمريكا قد انسحبت وقتها من فيتنام.
أعرف ما سيقوله المتذمرون من فوضى الإعلام، وكذب الإعلاميين. وأعرف أن ليس كل صحفى هو سيمور هيرش أو بوب وودوارد، وليست كل صحيفة هى النيويوركر أو الواشنطن بوست.. أعرف. ولكنى أعرف أيضا أننا نتعلم. وأى طفل لن يمكنه أبدا أن يتعلم المشى إلا إذا تعثر مرة ومرات، وجرحت ساقه وربما رأسه. فلكل شىء ثمن.. وللديموقراطية أيضا إن كنتم صادقين فى طلبها ثمن.
•••
وبعد..
فلا جديد فيما قرأتموه فى السطور السابقة، فكله كتبته، أو كتبت عنه من قبل. فقط فى مثل تلك مناسبة يحتفل فيها العالم كله بحرية الصحافة والحق فى التعبير، أردت، إن أذنتم أن أعود إليه. ثم أردت ونحن نعيش واقعا أخذنا الإعلام إليه أن نتذكر سويا حقيقة أن الإعلام ابن مجتمعه، فإن كان المجتمع ديموقراطيا، إنحازت الصحافة «الحرة» لقيم الديموقراطية والشفافية والمساءلة، وإن كان النظام غير ذلك، عمل الإعلام على صناعة الديكتاتور. وغسل عقول الناس. لينتهى الأمر بالجميع (وسط الهتاف واللافتات والأكاذيب الملونة) إلى الهاوية. إذا لم تكونوا تذكرون جوبلز الشهير، فلعلكم مازلتم تذكرون كيف لم تفلح إطلالة سعيد الصحاف اليومية، ولا سخريته من «العلوج» فى إنقاذ رئيسه من الاختباء فى حفره، ولا فى إنقاذ وطنه مما ذهب إليه فى نهاية المطاف.
الصحافة «الحرة» هى تلك التى تملك (انحيازا للمجتمع والعدالة) أن تُسقط الرئيس، أما الصحافة «الموجَهة، والموجِهة» فهى تلك التى تبيع الأكاذيب والخداع فتُسقط المجتمع والدولة والوطن.. ثم يكون فى النهاية أيضا أن يَسقط الرئيس. فى التاريخ الطويل حكايا كثيرة، وفى تاريخنا «القصير» حكاياه أيضا. ولعل هذا يكون موضوعا لمقال الأحد المقبل.
نقلاً عن جريدة “الشروق”