سيد عبد الكريم.. دكتور بدرجة معلم

محمد حسن الصيفي

هل تؤمن بالحظ؟

في الغالب لا، لكني أتوقف دائمًا عند بعض الأشخاص والمحطات لأتسائل، أين الحظ من هذه المحطات وهؤلاء البشر؟

أتوقف عند بعض الشخصيات التي فعلت كل شيء، لكن هل منحها الزمن مقابلا معقولا حيال ما قدمت؟

الإجابة لا، حتى وأنت تبحث عنهم وعن سيرتهم الذاتية تجدها مختصرة، مختزلة، مسلوقة في كثير من الأحيان، هؤلاء الذين يجب أن يتغنّى بهم الناس أو يصنعون لهم تماثيلاً من الذهب الخالص.

لكن منذ متى والحياة لعبة عادلة؟

لم ولن تكون كذلك، ونحن نسير ونتعامل على هذا المبدأ، ونحفر ونلقي البذور والله وحده يعلم أين وكيف ومتى سوف تصبح تلك البذور ثمارًا طيبة.

نرشح لك: في ذكرى ميلاده الـ 106.. 8 ابتهالات دينية ووطنية لـ محمد الكحلاوي

مع بدايات الخريف “الفصل الأكثر هدوءًا في العام” تبدأ كل الأشياء في التغير، ومع اقتراب الجو من البرودة ودخول المدارس تبرز قيمة الدراما بعد يوم مرهق في العمل والدراسة وحالة الهدوء واقتراب البيات الشتوي.

ربما تذهب لترتدي البيجاما وتضع براد الشاي على النار وتمنح لنفسك قيمة مريحة وثابتة يوميًا بمشاهدة أحد المسلسلات، خاصة تلك التي تحمل بداخلها عوامل الدفء والحنين.

يطل من القنوات أسامة أنور عكاشة بدرامته الممتعة الدافئة، ويطل معه أبطاله، وتطل معه التركيبة الفريدة، ويعود السؤال أين حظ هؤلاء الذين كانوا ملأ السمع والبصر في تلك الأعمال، سيد عبد الكريم، سيد عزمي، محمد متولي، صبري عبد المنعم .. وغيرهم من نجوم الثمنينات والتسعينات الذين صنعوا حالة من الصعب تكرارها، حالة تجعلك تجلس بعد ربع قرن وأكثر لتشاهد أعمالهم بنفس الرغبة والمحبة والحماس.

سيد عبد الكريم

_بقى دي انتخابات دي؟ دا لعب عيال!

_ما أنت اللي قاعد ومخليها تعيّل يا معلمي..

كان هذا جزءًا من حوار المعلم زينهم السماحي وزعتر صبيه حول حملات كلا المرشحين “البدري” والعمدة سليمان غانم، في الجزء الأول من ليالي الحلمية.

يقف “زينهم السماحي” الذي طغت شهرته على سيد عبد الكريم شخصيًا في الحارة ليدور بينه وبين صبيه هذا الحوار حول لعبة الانتخابات.

الغريب أنك حتى الآن لو قلت سيد عبد الكريم سيقف أحدهم ليحك رأسه بيده لكي يتذكر من هو سيد عبد الكريم، لكن زينهم السماحي معروف بهيئته ولونه القمحي وشاربه الشهير وملامحه المصرية الخالصة قريبة الشبه بأبطال مصر من أمثال عرابي والبارودي ومصطفى كامل ومحمد فريد في كتب التاريخ.

لكن زينهم السماحي البطل المعاكس لهؤلاء، بطل ولكن على طريقته الخاصة في المناطق الشعبية الحارّة والشوارع والبيوت المتلاصقة والحكم التي خلدها الزمن وأخلاق ولاد البلد التي أصبحت شبيهة الآن بالأساطير.

المعلم زينهم السماحي في الجزء الأول من “ليالي الحلمية”

سيد عبد الكريم الذي انتقل من السياسي الوطني صاحب الأحلام الكبري في الشهد والدموع “1983” إلى المعلم بن البلد في ليالي الحلمية “1987” كان له من السياسة نصيب حتى في تاريخ ميلاده.

فقد ولد في الإسكندرية 26 يوليو 1936 تحديدا في زنانيري “في العام الذي تمت فيه المعاهدة التي حملت اسم العام نفسه، والتي كان لها الأثر في بداية الانفراجة وحصول مصر على استقلالها فيما بعد، ودخول أبناء الطبقات والحرف البسيطة للكليات الحربية وهي التي قامت على يديها ثورة يوليو بعد ذلك.

امتلك والده مقهىً شهيرًا في سيدي جابر، حيث كان المقهى يستقبل زعماء الحركة الوطنية آنذاك، وفي تلك الأجواء نشأ “عبودة أفندي” وحملت ذاكرته كل المشاهد التي سيقوم بها فيما بعد، فمن الصعب أن تفصل بين سيّد عبد الكريم السياسي الثائر المنهمك المهموم بالوطن وأحلامه وآماله وقضاياه الهامة وبين سيّد عبد الكريم الممثل الذي يقوم بدوره أمام الكاميرا ثم يغادر، الرجل يذوب في الشخصية، وتتحول ابتسامته وملامحه الطيبة إلى الثائر الغاضب أو المنتشي أو الحكيم الذي يتحدث عن أخلاق وجدعنة ولاد البلد.

سيد عبد الكريم الذي زرع في نفوس المشاهدين عبر دراما أسامة أنور عكاشة وغيرها القيم والمباديء والأفكار الواضحة والمواقف التي لاتحمل الألوان الرمادية، كان خريج نفس الكلية، “كلية الزراعة” التي أسس بها فريق التمثيل متفوقًا في الأمرين على السواء “الدراسة والتمثيل” الأمر الذي مكنه من إكمال دراسته عبر منحة إلى ألمانيا ليعود منها أستاذًا جامعيًا، وطالبًا في نفس الوقت في معهد السينما بقسم السيناريو والإخراج.

وسيد عبد الكريم الذي قدم “أنس المختار” دكتور الجامعة في دراما “أهالينا” التلفزيونية كان متخصصا في الواقع بقسم مقاومة الآفات في كلية الزراعة، ربما صدفة، لكنّه كان دائمًا مقاومًا آفات المجتمع عبر مختلف الأدوار التي قدمها، وعن طريقه تقتنع تمامًا بمقولة أن الفن رسالة ورسالة هادفة وفي غاية الأهمية.

سيد عبد الكريم في مسلسل أهالينا .. إنتاج 1997

 

يظل يتقلب في الأدوار من هنا إلى هناك، بأدوار تبدو منفصلة متصلة في زيزينيا والضوء الشارد وخالتي صفية والدير وامرأة من زمن الحب، ربما لو خرجت تلك الأدوار من ممثل آخر لبدت متشابهة أحيانًا، لكن سيد عبد الكريم دائمًا لديه لمسة ومخر ج ونفاذ عميق إلى طريقة وفكرة وحكاية جديدة ينفذ بها إلى الجمهور

وسيد عبد الكريم على عمره الذي امتد إلى 76 عاما لم يعرف الأدوار المصكوكة أو الجاهزة السهلة ولم يلجأ إلى ما يمسى بلغة اليوم “النحت” بل كل أدواره كانت متقنة، ومدروسة وتأخذ استعدادًا خاصًا مثلما فعل قبل تصوير الجزء الثالث من ليالي الحلمية، فقد جلس مع دكتور مخ وأعصاب ليشرح له كيف يؤدي الدور الصعب الذي تحول فيه المعلم زينهم إلى رجل مريض يقوم بتصرفات لا إرادية، وتلك هي صفته “الإتقان”، لا يعرف طريق الاستسهال أو الاستنساخ…

توفي 31 مارس 2012 بعد مشاكل في القلب في مستشفى عين شمس التخصصي حيث لم يلق الاهتمام والدعم الكافي، رغم أنه طوال عمره لم يخذل أحدًا بل كان ابن البلد الأصيل الذي لا يفوته الواجب، في الدراما أو في الحياة العامة.