اعتقدت ذات يوم من الأيام أنه “سوبر مان” يستطيع أن يفعل أي شيء، وحين كبرت علمت صحة هذا الاعتقاد، فهو يستطيع أن يفعل أي شيء كي يسعدني ويرى ابتسامتي، إنّه الأستاذ.. إنّه أبي.. الذي كنت أراه بطلا.. وما زلت.. وكيف لا أراه بطلًا وهو يفعل ما أحبه.
لم يرفض أبي دراستي، فمنذ انتهيت من الثانوية العامة وأتممت إجراءات دخول الجامعة سألني أبي عن اختياري للكلية، فقلت له بكل شجاعة كما عودني أن أصارحه أنني سأدرس المسرح وفنونه المتعددة، وقتها فرح أبي بشدة لحبه الشديد للفن، فكان أبي دائم التردد على السينمات وهو بسني، على الرغم من شغفه بالقانون ودراسته له، المحامي المستشار محمود محمد أحمد، الذي تفوق على محاميّ جيله في هذا المجال.
وجدت سعادة على وجه أبي بعد سماعه لنوعية الدراسة التي اخترتها، قال لي: “إذن أفضل مكان لهذا هو المعهد العالي للفنون المسرحية، لما لا تقدمي فيه فهو أشمل من الدراسة بجامعة عين شمس؟”، فكرت للحظات يا أبي بذلك، لكنني انتزعت الفكرة بعد سماع آخرين يستنكرون دخولي لما يسمى “المعهد” بعد هذه الدرجات العالية التي حصلت عليها، معتقدين أنّه معهد أقل من الكلية في الدرجة العلمية!.. لا يهم يا أبي، فجامعة عين شمس ستكون الأفضل على الإطلاق في كل شيء.
نرشح لك: أحمد حامد دياب يكتب: أستاذي الشيخ أحمد هشام
لم ينصت أبي لمن كان يقول له اجعلها تدخل كلية الحقوق مثلك كي تمسك بعض مهامك وتساعدك، كي تضمن لها وظيفة، كي تساعدها على مذاكرة المواد الدراسية في الجامعة، لكن أبي تجاوز كل هذه الجمل، وكان رده دائمًا “كريمة ستختار ما تحبه فهي التي ستدرس لا أنا”.
اكتشفت مع مرور الأيام أنّ هناك مشكلة أكبر من كل ذلك، فقسم الدراما والنقد المسرحي لا يقبل الطلبة المتقدمين له إلا بعد اجتياز الامتحان التحريري، الذي يتضمن كتابة نقد لإحدى المسرحيات، كيف سأفعل ذلك وأنا لا أعلم أي شيء عن النقد، وقتها كان رد أبي وأمي متشابهًا، فأبي قال إنّني سأستطيع اجتيازه ما دمت أحب هذه الدراسة، وأمي ذكّرتني بحبي للكتابة وتأليف الشعر، وأسلوب كتابتي الذي كان يميزني طيلة دراستي، نعم كنت لا أتذكر ذلك بمجرد دخولي الثانوية العامة التي قضت على مواهبي، وكانت المشكلة الأكبر التي صارحت بها أبي هو أنني يملؤني الخوف من تحديد موعد الامتحان ونحن في العطلة الصيفية بمرسى مطروح، ماذا سأفعل يا أبي؟، قال: “لا ينشغل تفكيرك بهذا، فإن حكم القدر علينا أنّ نعد أنا وأنتي لخوض الامتحان ونعود مرة أخرى سنفعل ذلك”.
نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: الأستاذ محمود عوض
كان ذلك رده، امتلأت شعورًا بالفخر تجاهه، وحبه لدراستي التي اخترتها، ما جعلني أضاعف مشاهدتي للمسرحيات التي أنزلتها على “اللاب توب” وأخذتها معي في مطروح، فكنت أستبدل النوم بمشاهدة المسرحيات بعد الاستمتاع بقليل من البحر، كل ذلك كي أنجح لأرى دائمًا الفخر في عيون أبي، ودخلت الامتحان وذهبت بعدها لأقرا أسماء المقبولين في القسم بالكشف النهائي، وكانت تملؤني الثقة بالنفس وأنا أبحث عن اسمي وكأنني واثقة من هذا النجاح. وحين أبلغتهم بهذا النجاح قالت لي أمي: “كنت أعرف أنكِ من المقبولين، فمن سيختاروا إن لم يختاروك أنت”.
وفي يوم من الأيام قبل دخولي الجامعة بعدة أسابيع، استيقظت من النوم على صوت أبي يقول: “استيقظي يا كريمة، أتيت لك بكتبٍ ستفيدك بدراستك”، ما كل هذا يا أبي أنا لا أعرف حتى الآن ماذا سأدرس، وكان ردّه وقتها أنّه لا يعلم أيضًا، لكنه شعر للحظات أن هذه الأشياء ستنير عقلي، كان من بينهم كتابًا بعنوان “تاريخ السينما الأمريكية”، وآخر عن السينما العالمية، وكثير من كتب النقد الأدبي، أما الكتاب الذي لم أستطع حمله من ضخامة حجمه، فكانت روايات نجيب محفوظ الموسوعة الثالثة، والتي وجدت بينها رواية “زقاق المدق”، ذلك الفيلم الذي كنت أحبه منذ صغري وأحب شادية بطلته، وكان أبي يعلم ذلك.
نرشح لك: فاطمة خير تكتب: أمينة النقاش ونبيل زكي.. شكرا
توالت السنوات وكان أبي يساعدني بأفكاره الفنية، ويحكي لي أفلامًا ومسرحيات نادرة لم تعرض إلا لوقت قليل، وحتى يومي هذا ينادي عليّ أبي حين يرى فيلمًا أحبه من أفلام الزمن الجميل، أو فيلم به فكرة ربما تنير عقلي المولع بالنقد.
كنت تعتقد يا أبي أنّني نسيت ما فعلته، لكنّه محفور في ذاكرتي ما دمت حية، شكرًا يا أبي على ما فعلته تجاهي ومازلت تفعله، فأنت وأمي أفضل ما في حياتي، شكرًا أستاذي وقدوتي.. شكرًا أبي.