محمد حسن الصيفي
في الفيزياء قاعدة شهيرة تنص على أن الضوء أسرع من الصوت. لكن لكل قاعدة من يخالفها، ونظرًا لكونه صاحب بصمةٍ مختلفة أتى على عكس القاعدة، فعرفه الجميع عن طريق صوته قبل أن يعرفوا اسمه.
في مطلع الستينات تم تعيينه في مسرح التلفزيون، وبعد مرور سنوات حدثت النكسة، كان صوتها أعلى من كل الموجودات، أعلى حتى من صوت الألم، فحدث الاستنفار، وتطوع شباب الوطن، وانتظموا في الصفوف لكي تندمل الجروح.. فكان واحدًا منهم.
في خضم الأحداث والمسارعة حدث خطأ صغير في الإجراءات، في فترة كانت الأخطاء هي سمتها الأساسية، فتم فصله من عمله وهو على الجبهة !
بعد نصر أكتوبر عاد من جبهة القتال لجبهة العمل، وبعد جهود مضنية عاد لمسرح الأطفال، ووهب نفسه إليهم بعشرات المسرحيات، وانصهار كامل.
حتى ظهرت من بعيد شخصية “بقلظ” والتي كانت من خيال الشاعر شوقي حجاب، واستلهم بقلظ طريقتها من شخص مهيب كان يعرفه، لكن صوته كان يخرج على هذا النحو الذي عرفناه.
سيّد عزمي، صاحب الصوت الأشهر في عالم أطفال الثمانينات والتسعينيات، والذي سبق صوته صورته بأعوامٍ طويلة.
تقول نجوى إبراهيم في برنامج صاحبة السعادة: كُنا نرتجل الحوار، كنت أُبلغه فقط بموضوع الحلقة ويأتي الحديث بشكل طبيعي دون تحضير.
ومن خلال سنوات العمل التي سبقت “بقلظ” كان سيد عزمي احترف العمل مع الأطفال ودخل عقولهم، وذاب وسط تلك المخلوقات الصغيرة وثرثرتها وأفكارها المتدفقة وأسئلتها اللامتناهيأضف جديداًة، وظل يندمج شيئًا فشيئًا في عالمهم حتى وصل، أصبح واحدًا منهم، بل الرجل الأشهر والأكثر تأثيرًا في طفولة هؤلاء.
كانت تلك الفترة قد شهدت ظهور سيد عزمي على الشاشة مطلع الثمانينات بعد سنوات كان في مرحلة “الصوت وبس”، لكنها ربما كانت مرحلة شق الطريق، كانت أعمالاً جيدة مثل أبنائي الأعزاء شكرًا، وأبواب المدينة بجزئيه وعدة مسرحيات، لكنها لم تكن التعبير الجوهري عن موهبة سيد عزمي، لم يكن الانفجار أتى بعد.
وذلك قبل أن يظهر أسامة أنور عكاشة بخيوطه الدارمية المتلاحمة، وقبل أن يُلقي بصنارته على الحارة المصرية ليخرج منها أبطالا ورجالات كان من أهمهم سيد عزمي والذي شكل محورًا أساسيًا في كل أعماله، بلغة الكرة كان اللاعب رقم 6 في تشكيل عكاشة، لاعب أشبه بحسام عاشور في قوام فريق الأهلي، حجر الزاوية الذي من دونه ينهدم العمل.
نرشح لك: في ذكرى ميلاده الـ 106.. 8 ابتهالات دينية ووطنية لـ محمد الكحلاوي
وقتها ظهر الأسطى “قُطب” على قارعة طريق الدراما في “الشهد والدموع” 1984، بورشة الميكانيكا وبحبه لفتاة جامعيّة صغيرة.
ملامح سيد عزمي بجسده الضئيل نسبيًا وذكاءه الذي يشع من عينيه، كان تجسيدًا حقيقيًا يتربع من خلاله على عرش من مثلوا أهل الحرف في الدراما المصرية.
يبدو أنه عاد لفترة النكسة والتطوع في الجيش والجبهة، الاستنزاف ثم النصر .. المشاهد كلها كانت حاضرة في الشهد والدموع، فتخطى مرحلة الجيد، لقد خرج الدور صارخًا بامتياز
ومن بعدها انتقل عزمي من الريس قطب إلى الريس زكريا في ليالي الحلمية، ليصبح قياديًا عماليًا ثائرًا يتحدث بقوة عن حقوق العمال ورفع الظلم عنهم “يبدو أنه عاد لأيام كلية الحقوق، يوم أن تخرج منها مؤهلاً ليكون محاميًا معنيًا باسترجاع الحقوق”
وبعدها توالت الأعمال، واكتملت الصورة، ونضج الصوت، عاد للأطفال من باب الحنين بشخصية “زيكو” في بوجي وطمطم وحصدت نجاحًا ساحقًا، ثم عاد للكبار بالحب وأشياءه الأخرى، ثم الراية البيضا ليشارك في صنع أحد أهم وأشهر إفيهات الدراما المصرية الخالدة بجوار سناء جميل “المعلمة فضة” “ولا يا حمو، هات التمساحة يالا”
ثم عشرات الأعمال الهامة “زيزينيا، أنا وأنت وبابا في المشمش، أبو علا البشري، أرابيسك، خالتي صفية والدير، أهالينا، عفاريت السيالة، أم كلثوم، المصراوية، كناريا وشركاه، العندليب…” وفيلم وحيد عام 1993 كان “إنذار بالطاعة”.
وهو ما أثار استغراب الكاتب بلال فضل في برنامجه “الموهوبون في الأرض” فكيف لهذا العملاق في الدراما أن يكون تواجده في السينما من خلال فيلم يتيم، لكنه يحيل الأمر لكسل المخرجين والمنتجين والاستسهال الشديد منهم.
والحقيقة أن أعمال سيد عزمي بمفردها تستحق سلسلة حلقات، قراءة وتحليل وتفنيد واكتشاف، لكن يكفينا هنا أن نشير إلى أحد أهم رجال دراما المصرية في تاريخها دون أدنى مبالغة.
فالرجل واحد ممن حملوا الحارة المصرية على أيديهم في الدراما، بداية من الأسطى قطب إلى الأسطى زكريا وصولاً إلى عبد المنعم عسلية في عفاريت السيالة، وخروجًا عن العادة بأدواره في رأفت الهجان وأم كلثوم والعندليب في أدوار مركبة ومختلفة أبرزت موهبة مذهلة.
وهو كما أشرنا أحد جنود أسامة أنور عكاشة المجهولين، تجده ينتقل معه من عمل إلى آخر، ومن حارة إلى شارع إلى مدينة، ظل يجسد التركيبة المصرية التي تمثل الأغلبية الكاسحة للمصريين، من العمال والأسطوات والموظفين والبسطاء، وبهدوء شديد ودون ضوضاء أو صخب ودون ضجة وبعفة وباحترام بالغ لنفسه ولتاريخه، وتحمل المشاكل والأعباء المادية في حياته وفي مرضه باتساق كبير مع نفسه واعتزازبما قدمه لمصر ولتاريخ الدراما المصرية، لذلك تجده طوال أربعين عامًا لم يقدم عملا تافها، أو شخصية درامية تائهة أو مرتبكة ضعيفة الحياكة، بل كان على طول الخط يعرف حجم موهبته وفنه مهما كانت المشقة ومهما كان احتياجه للموارد احتياجه للموارد، توفي رحمه الله في الثاني من نوفمبر 2011 ليترك لنا إرثًا لن تمحوه الأيام وإن طالت.
نقدم لك: نهايات مأسوية لنجوم الفن..