أغلب الظن أنّي ورثت لون العينين وطيبة القلب من أمي ميرفت، (يقولون إنّي طيب القلب وأنا أصدق ذلك)، واكتسبت محبة مشاهدة الأفلام وتشجيع الزمالك من أخي باسم (ربنا يسامحه على خطيئة الزمالك دي)، بينما أخذت مسحة الغموض (متعرفش أنا تبع مين بالظبط)، وروح السخرية، وقلة الكلام، والميل إلى القيادة والتنافسية (ده في زمن الشقاوة يعني)، والعصبية المفاجئة بعد طول هدوء، وقبل هذا كله، حب الصحافة والكتابة من والدي، هشام محمود عبيه، الذي أناديه اختصارًا دومًا منذ سنوات طويلة وحتى يومنا هذا بـ”الحاج هشام”.
أنا كل ما سبق بكل تأكيد، لكن ما اكتسبته من والدي شكّل ملمحًا أساسيًا وفارقًا في حياتي، وصنع الطريق الذي قررت أن أسلكه منذ ما يقرب من عشرين عاما تقريبًا لأكون صحفيا وكاتبا (ولاحقا كاتب سيناريو محتمل)، مدركًا في ذلك الوقت أي ثمن عليّ أن أدفعه طوال هذه الرحلة، وربما كان هذا نفسه أحد الدروس التي تعلمتها من والدي.
نرشح لك: عماد العادلي يكتب: “الأستاذ أبو بكر” وأول درس في النقد
لا أذكر مطلقا أنّ أبي أعطاني درسًا مباشرًا ذات يوم. لم يحدث أن وقفت أمامه ليقول لي حكمة أو خلاصة حياته، كل شيء تعلمته منه انسكب بداخلي تلقائيا بالتعليم غير المباشر، عرفت الصواب منه لأني كنت أراه لا يفعل الغلط، تعلمت أنّه يمكن أنّ تكون موظفًا حكوميًا (مهندس زراعي)، وأنّ تحقق تفوقًا وتميزًا واستمتاعًا في عملك، دون أن تكون فاسدًا أو مهملًا أو “ضاربها صرمة”.
كان لا بد أن أرث منه حب الصحافة وأنّ أتعلم منه الكتابة، لأن وعيي قد تفتح وأنا أراه يكتب (حرفيًا) مجلة كاملة من 20 صفحة بخط يده، كنت أراه يجلس في “غرفة الصالون” المنفصلة نسبيًا عن باقي الشقة، ويشعل الأباجورة ذات الضوء الأصفر والحرارة الشديدة، ليجلس بالساعات يرسم “ماكيت” بسيط، ويضع العناوين، ويكتب بقلم أسود أنيق – يوني بول في الأغلب.. وقد ورثت حب هذا النوع من الأقلام منه أيضا- كل صفحات مجلة “الشعب في شربين”، وهي مجلة رغم كونها شديدة المحلية (تتحدث عن شعب وأهالي مدينة شربين بمحافظة الدقهلية كما لعلك لاحظت)، إلا إنها كانت تحفل بتحقيقات وحوارات مهنية ومتقنة ومشوقة، قام والدي بتنفيذ الكثير منها، كما كان يكتب في الصفحة رقم 3 (وهي كما يعلم أهل الصحافة أبرز الصفحات في أي جريدة أو مجلة)، مقالًا معارضًا ناريًا، في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، وهي سنوات كانت الصحافة فيها تحفل بأصوات معارضة حراقة (زمان بقى)، تجلت في صحف الوفد والأهالي والشعب، وقد كانت “الشعب في شربين”- باعتبارها الشقيقة الصغرى لجريدة الشعب لسان حزب العمل وباعتبارها أيضًا تصدر من مسقط رأس رئيس الحزب إبراهيم شكري- صوتًا لا يقل سخونة، حتى أنّي كتبت فيها وعمري لم يتجاوز عشر سنوات بعد، مقالًا يهاجم وزير الداخلية المرعب حينها “زكي بدر”، (كان طبيعيًا ووالدي محرر المجلة الرئيسي ويكتبها بخط يده من الألف للياء أن تنشر المجلة مقالًا لنجله ذو العشر سنوات.. واسطة يعني)، ولم تمر أيام إلا وأُقيل زكي بدر من منصبه، وكان من حقي بعدها أن أتباهى بين زملائي في المدرسة بأنّ مقالي هو من “أقال الوزير”!.
نرشح لك: كريمة محمود تكتب: الأستاذ محمود محمد أحمد.. فنان بدرجة مستشار
ورثت حب السياسة والتنافس الانتخابي من أبي أيضًا، كان عضوًا فاعلًا في حزب العمل، وقد كان هذا الحزب- ألف ورحمة ونور عليه- نموذجًا ملهمًا في العمل السياسي على الأرض، صحيح أنّه وقع في الكثير من الخطايا السياسية كالتحالف مع الإخوان مثلا في انتخابات 1987، لكنه رغم كل شيء كان حزبًا حيًا ممتلئًا بالكوادر والحركة في الشارع، كما خاض أبي الانتخابات النقابية كثيرًا وظل نقيبًا للزراعيين في محافظة دمياط لسنوات ممتدة، وعندما خاض انتخابات نادي شربين الرياضي ولم يوفق، تعلمت منه أنّ الهزيمة واردة جدًا في كل خطوات حياتنا، المهم ألا تنهزم مرتين من نفس العدو.
وهكذا وجدت نفسي منافسًا دومًا في انتخابات اتحاد الطلاب، على مستوى المدرسة ثم الإدارة التعليمية وصولًا إلى المحافظة، وقد كانت انتخابات حقيقية وساخنة بالفعل، وحين منيت بهزيمة مفاجئة في انتخابات “أمين الفصل” في أولى ثانوي، وقد كنت امين اتحاد طلاب الإدارة وعضو مجلس اتحاد طلاب المحافظة في “ثالثة إعدادي” (تخيّل الصدمة)، وجدت والدي يستقبلني بابتسامة مشجعة كبيرة، معتبرًا أنّ ما حدث أمرًا طبيعيًا لأن “الجمهور” / الطلاب قد تغير، وعليّ أن أتكيف مع هذه الحقيقة.
ولقد فعلت ذلك فعلًا وعدت أمينًا لاتحاد طلاب المدرسة الثانوية في العام التالي، وقد قلت لنفسي إنّ أول قرار سأتخذه إذا أصبحت وزيرًا للتعليم هو إلغاء “أولى ثانوي” من سنوات التعليم كلها!.
نرشح لك: وسام سعيد يكتب: الأستاذ علاء العطار.. عازف “كونشرتو” الأمل
هكذا تعلمت من أبي المعارضة واللماضة والسخرية، والصبر على الكفاح، والمحاولة بإخلاص ويقين بعد الفشل والانكسار، وتعلمت أيضًا أني سأدفع ثمن كل ذلك، ولا بأس طالما أني استمعت بما فعلت، ولعلك لاحظت أن “مهارة كسب الفلوس” غير موجودة في كل الدروس السابقة التي تعلمتها من أبي، لأنّه للأسف هذا هو الدرس الوحيد الذي فشل فيه، وطبعا ورثته أنا منه بكل شطارة!. كان أبي معلمي الأول إذن، بينما كان د. أحمد خالد توفيق هو مرشدي وملهمي الروحي.
أغلب الظن أنّي لو لم أقرأ “أسطورة النداهة”- العدد رقم 2 في سلسلة ما وراء الطبيعة- في صيف 1994، لتغير مستقبلي تمامًا. كنت حينها في الرابعة عشرة من عمري، وهي السن غالبًا التي يتحول فيها الأولاد إلى بلطجية أو إلى مشروع “دكتور” محتمل، ولم يكن لدي أي ميل للمهنتين.
كنت أحب الصحافة لكني لا أعرف لها طريقًا، وفي الأغلب كنت سأترك نفسي “أمشي مع الماشيين” كيفما يتفق. ربما استسلمت لمصيري التقليدي (وقد التحقت بعدها بكلية التريبة) وصرت “مدرس كيمياء” يعطي دروسًا خصوصية تحت اسم “عبقري الكيمياء” ويكسب “فلوس قد كده” كل شهر “نصيب بقى”، لكن افتتاني بكتابة د.أحمد خالد توفيق، جعلني أكتشف أن هناك مهنة عجيبة ممتعة وساحرة اسمها “الكتابة”.
عرفت أنّ الكتابة في الأغلب هي منحة ربانية يمكن تطويرها لمن استطاع إليها سبيلا، وأنّ إنتاج كلمات ذات معنى ومتعة على الورق هي “معجزة” بكل المقاييس. ومن ذا الذي لا يحب أن يكون ساحرًا يصنع المعجزات بين الحين والآخر؟!.
نرشح لك: عاليا عبد الرؤوف تكتب: الأستاذ سيد
غيّر د.أحمد خالد توفيق من مستقبلي تماما. ربما لا يكون المستقبل هذا الذي تراه الآن ملهمًا أو عظيمًا، وربما يكون لدي إحساسًا داخليًا دومًا بأنه كان يمكن أن يكون أفضل، لكن في كل الأحوال حدوث ما جرى أفضل بكثير مما لو لم يتم.
علاقتي تطورت لاحقا مع د. أحمد خالد توفيق، من مجرد قارئ معجب، إلى صداقة، ورغم العلاقة المباشرة بيني وبين “كاتبي المفضل”، إلا أنه بدوره- تماما كما فعل أبي- لم أتعلم منه أي شئ “بالملعقة”، كل ما جرى تم بوصفي “قارئ” لما يكتبه.
تعلمت من د.أحمد خالد توفيق، أنّ الكتابة بالأساس يجب أن تكون ممتعة- ربما أكون فشلت في ذلك أحيانًا كثيرة بطبيعة الحال، لكنه هدف أضعه دومًا حينما أكتب-، وأنّ أي شيء يمكن أن تكتب عنه كتابة حلوة، أي شيء بمعني أي شيء فعلًا، حتى ولو كان حديثًا عن ذبابة “طهقتك” في عيشتك طوال اليوم، وأن الكتابة عن “أي شيء”، يجب- وليس يمكن- أن تكون مفيدة لقارئها، حتى ولو كانت هذه الإفادة هي ابتسامة عابرة، وأنّه يجب أن تقرأ كثيرًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا (التكرار مقصود وليس سهوًا أو خطأ) حتى تكتب جملة واحدة “عليها القيمة”، وأنّه عليك أن تفاجئ قارئك بين الحين والآخر، وألا تكتب “وفقًا لمزاجه” دائمًا، وأن الكتابة “اللي بجد” مُعمرة وخالدة، وربما يكون آخر درس تعلمته منه أن الكتابة المخلصة هي أحد أسباب الموت المبكر.
كيف يواجه أصحاب المكتبات حالة الركود في سوق الكتب؟